قبل ما يقارب العشرين عاماً، ذهبت بي المهنة إلى المرسم الحر برأس الخيمة، التابع لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية، والذي كان وما زال يشرف عليه الفنان عبيد سرور، الرجل الذي أخذ على عاتقه العمل على تكريس الفن التشكيلي في الإمارة، منذ أن عاد من القاهرة، مكملاً دراسته في الفنون الجميلة عام (1979)، وعمل مدرساً للتربية الفنية في رأس الخيمة، عبيد سرور الذي عكس في تجربته الفنية انتماءه الروحي والوجداني والثقافي بالمكان، وسجل بريشته تفاصيل البيوت، والبحر، والفرجان، والعادات، ورسم الألعاب الشعبية والنساء والرجال، وأبرز عبيد البيئة المحلية بحرفية عالية. وبما أنني من أبناء تلك الإمارة، أذكر حين كان المكان لا يضيعنا، ونعرف كل من مر، ومن أتى، من قطع الشارع، ومن دخل المكان، ومن...، حين كنا قريبين في مساحتنا التي تضمنا بحب، كنا نلمح عبيد سرور يقطع الطرق بسيارته الصالون الخضراء، وهي محملة إما بلوحات أو قطع من الخشب أو قماش للرسم، يمر عبيد إما ذاهباً إلى مرسمه أو إلى النجار كي ينجز له براويز للوحاته. في ذلك الزمن من الحياة كان مرسم رأس الخيمة هو عبارة عن بيت أسرة عبيد سرور القديم الذي يقابل شاطئ البحر في منطقة رأس الخيمة القديمة، تلك المنطقة التي شهدت تفاصيل طفولة جيل بأكمله، هناك حيث البحر المفتوح على المدى الشاسع للنظر حتى يلتقي الماء بالسماء، وحتى تغيب الشمس في البحر، أسس عبيد المرسم، وانضم إليه عدد من الشباب الواعد آنذاك، وبالفعل مر من ذلك المرسم عدد من الشباب الذين واصل بعضهم الرسم أو بقي الرسم لديهم هواية تكرس وتـُجمّل فيهم معنى ما في الحياة. لكن المكان على الرغم من موقعه الذي كان مميزاً في البداية، أصبح ضيقاً لارتفاع معدل النشاط، كما أن علامات الزمن ضربت جدران المكان وسقفه، وأصبح لا يصلح أن يكون مرسماً على الإطلاق، في ذلك الوقت بالتحديد زرت مرسم رأس الخيمة كمحرر في مكتب جريدة “الاتحاد” برأس الخيمة، والتقيت بالفنان عبيد سرور، تحدث فيها عن مشاكل المرسم، ومدى تهالكه، وعدم صلاحيته، و نشر هذا الحديث في صفحات “ألوان” التي تهتم بشؤون المنوعات بالجريدة آنذاك. وبعد زمن انتقل المرسم إلى المقر السابق لنادي عمان ـ نادي الإمارات حالياً ـ واتخذ من صالة تنس الطاولة مقراً له، وهي صالة قديمة جداً في الأساس، يعود عمرها حالياً إلى أكثر من أربعين سنة، إلا أن هذا المقر كان بمثابة منجاة بأن يستمر المرسم، ويعمل على استقبال أعضائه من الفنانين ومن الشباب والشابات الطامحين إلى تطوير موهبتهم في الرسم. وقبل أيام طالعتنا الزميلة “الخليج” على مأساة كبرى تواجه هذا المرسم من جديد، تتمثل أيضاً في المقر المتهالك، والذي لا يصلح مطلقا أن يكون مرسماً. وهنا نتساءل لماذا يكون حال مرسم رأس الخيمة بهذا الشكل؟ فمن غير المعقول في زمن أنجزنا فيه الأساطير من فن العمارة، فيما مرسم رأس الخيمة لا تزال تخترق حبات المطر سقفه، وتتلف اللوحات، من غير المعقول أن نعجز عن إقامة مرسم هو في صميم عملية البناء التي تُعنى بالإنسان أولاً، حيث الفن هو الواجهة الحقيقية لأي مكان، الفن هو إحدى مدارس الجمال التي تؤسس وتكرس قيمة جمالية للحياة. saadjumah@hotmail.com