نواصل قراءة هذا الموشح الثاني لابن سهل الأندلسي، ونلاحظ أنه مجزوء الوزن مقتصد الكلمات، خفيف الوقع كأنه أنشودة غزلية رامزة راقصة، يقول فيه: يا ظبي خذ قلبي وطن فأنت في الإنـس غربـي وارتـع فدمعـي سلسـل ومهجتي مرعى خصيب وقد تواتر لدى الشعراء استخدام الظبي رمزا للمحبوب المعلوم والمجهول، فهو من حيوانات الجنة كما يقول الجاحظ، ويجسد النموذج في الرشاقة وفتنة القوام والظرف وسحر النظر، وبوسعنا أن نتذكر توظيف شوقي له في نهج البردة رامزا إلى فتنة الجمال الأنثوي الخارق في قوله: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم لما رنا حدثتني النفس قائلة يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمى جحدتها وكتمت السهم في كبدي جرح الأحبة عندي غير ذي ألم وابن سهل يمنحه قلبه كي يكون وطنا له، فلا يملك عندما يتعاطف مع ظبيه أن يعرض عليه الحماية والمأوى في قلبه، معللا ذلك بأنه غريب بين الإنس، بينما يكنى وأجدرهم بالعشق. وقد شاع لدى الشعراء الحديث عن ظباء الإنس منذ قال أبو الطيب المتببي “أظبيه الوحش لولا ظبية الإنس” ثم يطلب الشاعر من هذا الظبي الذي يسكن قلبه أن يرتع فيه ويرعى على هواه، حيث أصبح دمعه ماء سلسلا، وأصبحت مهجته مرعى خصيبا يمرح فيه المحبوب، وليس بوسعنا أن نحمل هذه الصورة على سبيل المبالغة، فالشعور لا حد له، ومواطن ابن سهل وهو الإمام ابن عربي قد جعل قلبه في سياق آخر “مرعى لغزلان” حيث يشير إلى احتواءه على كل الصور والملل. ثم يواصل شاعرنا قائلا: بين اللمى والحـور منهـا الحيـاة والأجـل سقت رياض الخفر في خدها ورد الخجل غرستــــه بالنظـــر واجتنبيـــه.. بالأمــل فينتقل من احتضان الحبيب في حشاشة القلب إلى تأمل مفاتنه ورعيها بالنظر، وكأنه يرسم بدقة صورة الجمال الحسي، واللمى سمرة مستحسنة في أطراف الشفة، أما الحور فهو مناط السحر في العينين من شدة البياض والسواد، ويقوم اللون هنا بدور حاسم في رسم ملامح الجمال والفتنة، لكن الصياغة الشعرية الأنيقة تتجاوز هذا التوزيع اللوني الشكل لتعقد عليه تقابلا آخر بين الحياة والموت. وليست القافية وحدها هى التى اختارت كلمة الأجل بدلا من الموت، بل لأن الأجل يتضمن العمر كله حتى نهايته، كما أن اللمى والحور السابقين عليها يتجاوران ولا يتعاوران. وتمضي الصورة الشعرية لتسكب ماء الحياة في الخد فينبت ورد الخجل، أما الشاعر فدوره طريف لأنه يتمثل في غرس البذور بالنظر دون أن يصل إلى جني ما غرسه سوى بالرغبة، وكل عبارة بليغة في هذه التراكيب الشعرية محسوبة بدقة، كما أن كل كناية أو مجاز قد نظم بإتقان، مما ينتج في آخر المطاف من كل مقطع لوحة، تزهو بألوانها وألقها وتعجب برقتها واكتمالها.