الطريق إلى جوانتانامو معبدة بكثير من النوايا الطيبة، وبراءة الطوية. هذا ما لا تريد أن تقوله رواية يوسف زيدان “محال”، لكنه جاء على صفحاتها فجّاً، صارخاً.. وهذا ما كان من خبر بطله، البريء، الحالم بالحب والاستقرار فمشى على الصراط المستقيم إلى أن وصل إلى المعتقل الأبشع صيتا. يغادر يوسف زيدان في هذه الرواية ملعب التاريخ، الذي ولجه في روايتيه “عزازيل” حيث كشف فيها الغطاء عن مكوّن العنف في بنية الكنيسة، و”النبطي” التي استعرض فيها حركة الناس والعقائد في المساحة بين مصر وأطراف الجزيرة العربية قبيل وصول الإسلام إليها. ملعب “محال” هو ملعب معاصر جدا، حدوده الزمنية عقد التسعينيات من القرن الماضي، الذي أكد انهيارات أو أسس لانهيارات. كان بطل يوسف زيدان يؤسس لحياته كما يريدها. شاب سوداني لأم مصرية، يواصل دراسته الجامعية ويعمل في قطاع الإرشاد السياحي المزدهر في أسوان. حصّن نفسه ضد مغريات هذا القطاع. تشغله فكرة الزواج بسودانية من قبيلة المتوكية، لكنه أثناء مهمة إرشادية يتعرف على نورا الإسكندرانية. يتفاعلان في كيمياء المصائر والأقدار. بيضاء وأسمر. شمالية وجنوبي. كانت نورا تستأهل أن يتخلى عن ذاك الحلم الضبابي عن المتوكية، لكن كل العناصر كانت تتجمع وتتكاثف لكي تبعده عن الإسكندرانية. الراوي الذي يتتبع سيرة بطله، صغيرها وكبيرها، يجعلها ضمن سياق أعم. تبدو جزء من صيرورة مجتمعات وشعوب ومنطقة، لذلك تتضفر مفاصل الرواية مع أحداث تتداعى ارتداداتها في مواضعها والأرجاء. وميزة زيدان، أنه تمكن من إحداث هذا التداخل بلا افتعال أو تصنّع، حتى عندما كانت الصدف تتوالى، فإنها بدت مبررة فنيا وسرديا. هكذا نطل مع البطل على الفترة التي عاش فيها أسامة بن لادن في السودان، يشق الطرق ويدير أعمال الخير، وقد التقاه البطل هناك، ثم نطلع على خلفيات انتقال بن لادن إلى أفغانستان، ونقف على تفاصيل مجزرة الأقصر التي خنقت السياحة، والقتال في الصومال، ونمر بعملية اختطاف المعارض الليبي منصور الكيخيا التي نفذها ضابط ليبي اختطف نورا من حبيبها الجنوبي، ونشاهد تفاعلات تدمير “طالبان” لتمثالي بوذا في باميان، واغتيال القائد الطاجيكي أحمد شاه مسعود، وهجمات سبتمبر في نيويويرك، والحملة العسكرية الأميركية في أفغانستان. تلك الأحداث كانت ارتداداتها الأولى تقع على كاهل بطل “محال”، فحملته مبعدا من أسوان إلى أم درمان، ثم ساقته وراء فرصة عمل في مصنع للألبان في الشارقة، ثم أوصلته مع رب عمله إلى أوزبكستان التي عاد منها بزوجة مطيعة، ومنها إلى الدوحة حيث خضع لدورة تدريبية على التصوير التلفزيوني، لينتقل بعدها إلى أفغانستان حيث تجري المعارك، ليسقط في مكيدة على الحدود بين باكستان وأفغانستان، حيث “باعه” ضابط باكستاني للأميركيين. هنا نكتشف كم كانت حياة هذا المكافح، القانع، الباحث عن الستر، هشة. كم كانت عرضة للتقاذف، والتطاير، مهما تحصّنت بحسن السيرة والسلوك وتلاوة الأوراد. هنا نكتشف لماذا اختار المؤلف هذا العنوان: “محال”. إذ من المستحيل أن تمسك بلحظتك الخاصة، في زمن الرمال المتحركة. وهنا نكتشف إن بطل يوسف زيدان، كان طوال الرواية واضح الصفات والملامح والتفاصيل، ولكنه بلا اسم.. لم يحمل اسما يدل عليه، أو تخاطبه به، لأنه بكل بساطة واحد من ملايين الناس، يشبههم ويشبهونه.. تفرق بينهم الجنسيات، وتتفرق بينهم السبل، لكنهم في النهاية يلتقون على الطريق إلى جوانتانامو... adelk58@hotmail.com