كلما هلت علينا نفحات رمضان المباركة، لجأنا إلى صفحات وضيئة من تراثنا الخصب، ولعلّ موشحات وأزجال الشاعر الصوفي الأكبر في الأندلس والمشرق وهو أبو الحسن الششتري (610 - 668 هـ/ 1212 ـ 1269 م) أن تكون خير نموذج لهذا الإبداع الفائق الذي اخترق الآفاق مع صاحبه المولود بالأندلس والمتوفى بدمياط. وقد سبق أن عرضنا له بعض المقطوعات الزجلية الرائعة، ونعرض اليوم لنص طريف يسخر فيه برفق شديد من الفقهاء الحرفيين الذي طالما ناصبوا الصوفية العداء، منكرين عليهم مذهبهم في ابتغاء الحقيقة واستخدام الرمز والكناية في مصطلحاتهم وأشعارهم، إذ قاموا بتطويع اللغة الغزلية لتتسع لمفاهيمهم الروحية وتجلياتهم العميقة.. يقول الششتري في هذه القطعة: «قوا للفقيه عني/ عشق ذا المليح فني وشربي معو بالكاس/ والحضرة مع الجلاس/ وحولي رفاق أكياس/ قد شالوا الكلف عني قولوا للفقيه عني/ عشق ذا المليح فني» ونلاحظ أولاً مدى ظرف الشاعر ولطف مداخله وإشاراته وتدفق إيقاعه وعباراته، حيث يوجه خطابه لجمهوره كي ينقلوه لخصمه الفقيه، إذ يبوح بعشق المليح في شعره، وهو عشق للجمال ومصدره الأسنى والنشوة القصوى في حضرته مع الرفاق المحترمين الذين اعترفوا له بالوصول ورفعوا عنه التكليف، وهذه هي مشكلة المتصوفة في مواجهة الفقهاء، إذ يرون أنهم قد وصلوا إلى مرتبة عليا يترك فيها حسابهم للخالق. ثم نلاحظ ثانياً أن الأبيات الزجلية تستخدم اللهجة الأندلسية في صياغتها العربية السلسة، فليس فيها ما يخالف الفصحى إلا في لفظ «معو» بمعنى معه، أما «شالوا» فهي عربية فصيحة، وهي مع ذلك تسبح في ماء اللحن وتبرأ من العيوب وتذوب في رقة النغم والتلحين، ويقوم تكرار المطلع بدور اللازمة الموسيقية التي تتوج الإيقاع وتركز الدلالة. «أيَّ مذهب تدريني/ الشريعة تحييني/ والحقيقة تفنيني/ وأعلم أنني سُنّى قولوا للفقيه عني/ عشق ذا المليح فني» فيعرض لمذاهب الفقهاء وأهل التصوف ليحدد موقفه، فالشريعة التي ينادي بها الأولون هي مناط الحياة الاجتماعية، لكنه يعيش على هامشها، وإن كان بذلك لا يخرج عن مذهب أهل السنة والجماعة، ثم يعود لتكرار اللازمة المحببة في عشق الملاحة والفن، ليتابع بقوله: «واعلم أن ليس في الدار/ غيرك فاقطع الأخبار/ وادخل معي المضمار/ أو مر، لا تصدعني قولوا للفقيه عني/ عشق ذا المليح فني» ينبه المتصوف الفقيه بأنه يعيش وحده في هذه الدار الدنيا، فعليه أن يدخل معه مضمار المعايشات الصوفية أو يمر عليها مر الكرام، فإذا تأملنا هذه المقاطع واستحضرنا الصورة التي رسمها لسان الدين بن الخطيب للشاعر بأنه كان «عروس الفقراء، وأمير المتجردين، لابس الخرقة وبركة أهل الأندلس»، أدركنا سبب تأثيره البالغ في متصوفة المشرق والمغرب، لأن أزجاله «فيها حلاوة، وعليها طلاوة، تبعث شهوة المشتاق، خاصة عن تحليتها بالنغم والصوت الحسن».