هكذا هي الثورات العربية أفرزت قوافل وفواصل وفصائل ومفاصل ومجاهل وعواذل ومناهل رثة غثة كثة، بثت سمومها، في الجسد الوطني حتى أهلكته وجعلته قاعاً صفصفاً وأبادت واستعادت تاريخاً مشؤوماً في حياة الأمة، تاريخ الصراع المرير في العهد العباسي الثاني، إذ تحولت الدولة إلى دويلات والعقيدة إلى عقائد وطرائق قدد ولم يبق الآن على الساحة سوى مجموعات تتصارع وتتقارع بالشعارات الصفراء من أجل تسويق الخديعة وتخدير الشعوب لتنساق وراء هذا الهذيان وهذا السيلان وهذا الطغيان ولا أحد يفكر في الوطن لأن الكراسي أصبح بريقها يعشي العيون ويثير الجنون ويفتح شهية كل آفاق مجنون.. الآن الأوطان تتمزق والقيم تتفرق والمبادئ تحترق والدماء تهرق والمطالب الحقيقية تُسرق، والحقيقة تضيع في متاهات النزق والشريف إذا نطق كلمة الحق اتهم بالكفر.
وتحضرنا هنا قصة النبي سليمان عليه السلام عندما جاءته امرأتان مختلفتين على أمومة طفل.. فنظر إليهما ثم قال أستطيع أن أحل المشكلة بشطر الطفل إلى شطرين متساويين وبذلك نكون أنصفناكما.. ولم يكد النبي سليمان يكمل جملته حتى زعقت إحداهما مذعورة.. لا.. لا.. هذا الطفل ليس ابني.. فهم سليمان النبي أن هذه المرأة هي أمه، ففضلت بقاءه بيد امرأة غريبة على تمزيقه إلى نصفين.
هذه القصة تدلنا على أن الانتماء الحقيقي للأشياء يجعل الإنسان يختار أهون الضررين ولأن تلك المرأة أم الطفل تنازلت عن حقها في الأمومة لكي يبقى طفلها حياً حتى وإن كان بيد امرأة أخرى.
ولو أن المختلفين والمتصارعين والمتحاربين يعرفون قيمة الوطن وأهميته بالنسبة للإنسان وأنه لا تساويه أية انتماءات أخرى لما وجدنا كل هذا السعار وهذا الدمار وهذا الانتحار وهذا الاندحار.. وهنا في الإسلام دعوة صريحة بتجنيب الأوطان، هذه الانهيارات المدمرة بتغليب أعظم المصلحتين على أعظم المفسدتين.. ولكن عندما يغيب المنطق ويرتفع صوت الأنا وتصير الذات الفردية أضخم بكثير من الذات الجماعية، تنتشر قيم الاستعلاء والاستعداء والانبلاء والبلواء ويتقاتل الناس بأنانية فجة ومريعة وفظيعة لا تنتهي إلا بانتهاء الكيان الاجتماعي وزوال كل ما هو حي.. في برنامج تلفزيوني شاهدت أنثى الأرنب وهي تحفر بساقيها الصغيرتين جحراً قد تراكم فيه التراب واختفى صغارها تحت الرمل.. هذه الحادثة تمثل أيقونية الحياة ومدى تعلق الكائنات غير البشرية بالوجود وحبها للحياة.. كائنات تجعل من الحياة استدعاء حقيقياً لاستمرارية النسل والتواصل والخلود.. فهل يا ترى نستفيد من عِبر اللاعقل لنضيء العقل بحكمة الفطرة الكونية؟