رمضان شهر مختلف بكل المقاييس، مختلف في توقيتاته، في أجندة الإنسان اليومية فيه، في مواعيد الذهاب للعمل والعودة منه، مختلف في أحاديثه النهارية وسهراته، مختلف في برامجه التلفزيونية، في قائمة الطعام المقدم على موائده، مختلف في علاقة الإنسان بطقوسه التعبدية، مختلف في حركته وسكونه، حتى الصلاة، الصلاة التي نصليها كل يوم تختلف حين نصليها في رمضان، الوقت إذا تجاوز الثانية عشرة ليلاً في رمضان تشعر وكأن المساء مازال في أوله يكتب سطر السهر الأول، حتى الطعام الذي نأكله كل يوم يختفي لتظهر أطباق رمضان الخاصة به، وحده دون كل شهور السنة، فإن رمضان مختلف بحق.. فأهلاً رمضان!
زمان كانت للنساء في رمضان طقوسهن استعداداً للشهر الفضيل، ولهن طقوسهن خلاله، وللرجال كذلك وللأطفال بلاشك، ذاكرة أطفال زمان مليئة بالتذكارات، فقد كانوا يعيشون الشهر على طريقتهم، يسرقون المتعة، والطعام بعيداً عن أعين الأهل حيث يختبئون بعيداً في “سكة” ضيقة أو تحت جدار مائل، ليأكلوا ما تيسر ثم يعودوا متظاهرين بالإعياء والعطش جراء نهار الصوم الطويل، وكانوا إذا أزف المساء واقترب موعد تحضير الأطباق استعداداً للإفطار يقيمون عند كل قدر مهرجان ضجيج، خاصة إذا كانوا صغاراً دون سن الصيام!
فإذا سكبت الأمهات أطباق “الهريس” و”الفرني” واللقيمات” وصببن عليه الدبس وفاحت الروائح العطرة للأرز والثريد، اصطف الصبية والفتيات لحمل تلك الأطباق إما لتوزيعها على بيوتات الحي، وإما لتوصيلها إلى مجلس أحد الرجال المعروفين، حيث يتجمع الرجال عنده للإفطار كل يوم وكل يحضر ما تيسر من بيته، بينما تفطر النساء والأطفال في بيوتهم، كان رمضان طقساً اجتماعياً محفوراً في ذاكرتنا وما زال، فكلما هبت رائحة الهريس تذكرت جدي وهو “يضرب” قدر الهريس الضخم بمضرابه الخشبي الكبير، وكلما رأيت طبق “فرني بالزعفران” تذكرت ذاك الذي طالما أعدته والدتي حين كنا أطفالاً، أما طبق “لقيمات” جدتي فهو بحق مضرب المثل، إنه رمضان الذي يصنع لكل التفاصيل ذائقتها وذوقها وحتى طعمها ورائحتها!
مساكين هم أطفال اليوم، فرمضان ليس سوى نوم، وألعاب إلكترونية ومسلسلات، بالرغم من أن رمضان لايزال طقساً دينياً اجتماعياً بامتياز، إلا أن غياب تلك التفاصيل الحميمة التي كان الحي مغموساً فيها، حرم الأطفال من دورهم في المشهد الخارجي، مشهد الحي خارج أسوار المنزل، حيث صارت تحتله الخادمات اليوم، ذاهبات قادمات بالأطباق وأشياء أخرى، فالناس ما عادت تعتمد على الصبية كما كان في زماننا، وهذا بالتأكيد له علاقة وثيقة بتبدلات المدينة وتطورات حياة الناس!
يبقى رمضان على الرغم من كل شيء مشهداً بصرياً رائعاً في الخارج، وفكرة حميمة في دواخلنا، يبقى شهراً مختلفاً، شهر عبادة وتبتل ونسك وقرآن، شهر اقتراب حقيقي من إنسانية نبتعد عنها طيلة الأيام ونحن نركض خلف سرابات شتى.. رمضان شهر جميل، حميم يأتي فجأة، ويغادر سريعاً، فاللهم اجعلنا على قدر عظمة شهرك الفضيل.



ayya-222@hotmail.com