اذا استثنينا الثرثارين، فإنه يلذ للبشر الخوض في المواضيع التي تستهويهم ويحبونها، والإسهاب في الحديث عن الأفكار التي تجذبهم الى هذه الناحية أو تلك. فتجد هذا يتحدث في الشعر وآخر في السياسة وبعضهم قد يتفنن في الحديث عن تفاصيل حياة الناس. ولكن اياً كانت طبيعة الأحاديث التي يقولونها فإنها تشكل في عمقها الأخير انعكاساً لما يرغبون في سماعه أو ما يتمنون أن يقال لهم. وبمعنى آخر فإن ما نقوله للآخرين إنما نقوله لانفسنا ايضا، وقد اقتربت الدراسات اللغوية الحديثة من رصد هذا الرابط المتين بين دواخلنا وبين ما نخاطب به الآخرين. ويبدو أن الحوارات اللغوية بين الناس انما نشأت لفهم انفسنا أكثر مما هي رغبة في التواصل مع الآخرين فقط. وهذا الاكتشاف من شأنه أن يفتح آفاقاً جديدة كلياً في التعاطي مع مادة اللغة التي نتداولها، فالكلمات التي تقولها، والنصائح التي تسديها لمن حولك، والنص والخطاب الذي تدفع به الى الحياة هو، بشكل ما، موجه اليك ايضا. الشاعر، حين يهدأ الكون، وتنام مخلوقاته في سباتها الغامض، يستيقظ ويختلي بالورقة ليكتب موجهاً نور كلماته الى الناس، لكنه في العمق أول من يستقبل هذا النور وأول من يكتشف الجمال حين تتراكم الصور والتعابير الجميلة وتتركب في مشهد رائع لا يراه الا من تفتحت اغصان الخيال في عقله وراحت تتفرع في الف بحر. وخطاب الشعر يختلف في جذره عن الكلام العام، فهو من ناحية لا يتوجه الى العقل أو الاذن، انما يتدفق مثل نهر ألوان كثيرة ليصب مباشرة في القلوب الجافة فتتورد ارضها وتخضر العواطف فيها وتصفى. والشاعر بهذه الطريقة انما يتغذى من شعره اولاً، يمتطي صهوة اللغة ليلجمها ويعيد توجيهها الى حيث يريد أن يذهب. انه باختصار يتحرر بكلماته التي يسمعها لأول مرة، وبالصور التي ينقشها على وجه الفجر ويراها شمساً تشرق على ظلام روحه. هناك ايضاً فئة من الناس، وقد يكون الشاعر من بينهم، يلجأون عند اختلاط المعاني الى الصمت، الى الانزواء والإصغاء الى ما يجول في دواخلهم من حوارات لا تتوقف أبداً. فترى الحكيم يتأمل في الطبيعة متابعاً دوران الفصول وتقلبات الأيام، لكن التأمل هو فعل اصغاء ايضا، والحكيم الذي نعتقد انه ذهب بعيداً في خلوة الكون، انما هو في الحقيقة ذهب لمخاطبة ذاته، وانزوى ليسمع ما يرغب في سماعه حتى لو كان ذلك بلغة أخرى غير لغة البشر. وقد تمر حالات على الشاعر يصمت فيها طويلاً، لكن نصه الداخلي يظل يتشكل في انزياحات الخيال وفي تعابيره اليومية حين تفلت منه جملة مغايرة او وصف لما يطرأ من جديد الحال. يختار المغني هذه القصيدة أو تلك ليشدو بها لأنها تعبر عن ذاته، ولأنها توصل صوته الى القلب، ولذلك ياتي لحنها صادقا يحمل الترنيمة وانسجام النغم، بينما اغنيات كثيرة مركبة عنوة من دون رابط تتحول الى هذر في الضجيج وطبل في النشاز. هكذا تفعل اللغة فعلها فينا من غير ان ندرك، نوجه كلامنا إلى الآخرين لانهم مرآتنا التي يرتد منها الصوت فنسمعه من جديد نقيا حقيقيا بعد ان كان مجرد هواجس مختلطة تتناطح في غيهب العقل. قال الحكيم: قل الكلمة صادقة وصدق بها قال الشاعر: قلمي مكسور واوراقي ممزقة كل يسمع لذاته كأنهما امام مرآة لكنها لا تعكس احدا. عادل خزام | akhozam@yahoo.com