«شايفة مصر يا عبلة..». لو أنهى كمال الشيخ فيلمه «الصعود إلى الهاوية» بغير هذه الجملة، لربما لم تكتمل رسالته الوطنية. يعود ضابط المخابرات الشاب من باريس، مع أخطر جاسوسة تمكن جهاز «الموساد» الإسرائيلي من تجنيدها. ومن شباك الطائرة تظهر مصر المحروسة، الممتدة، الوادعة، الورعة.. فيقول الضابط لأسيرته: «شايفة مصر يا عبلة..». لكن مصر لا ينبغي أن تراها من شباك طائرة تحلق فوق النيل، وأهرامات الجيزة، والمدينة المطرزة بألف مئذنة ومئذنة.. تلك صورة رومانسية، رسمناها بأنفسنا، أو رسمت لنا، فاكتفينا بها. لم نكن نعرف، أن هناك صورة لمصر غير هذه.. «شايفة مصر يا عبلة..»، ولكن، هذه المرة، من القاع حيث تحتشد الأزقة والحواري بالحكايات الصارخة والمكتومة.. حيث يكمل الفقراء عشاءهم نوما على حد تعبير نجيب محفوظ.. حيث تكتظ «القهاوي» بالحالمين والخائبين والمكلومين والساخطين.. حيث تبيع «أم أحمد» حزمة الفجل بالمليم واحدة، كما يقول العم بيرم.. حيث يعكف «طاهر» على إنجاز الخطوة الأولى نحو مشروعه منذ نصف قرن، وحيث تبكي «بطة» وتضحك، وتغني وتصمت، وتغضب وتفرح في اللحظة الواحدة ألف مرة.. لكن، أي مصر هذه التي نراها اليوم، أو على وجه الدقة منذ سنة؟ أن تصل جماعة حزبية إلى السلطة ديمقراطيا، هذا حق لها. وأن تعمل على تطبيق مشروعها السياسي والاقتصادي، بما يتوافق مع العقد الاجتماعي، ذلك أمر طبيعي.. لكن الذي جرى، هو أن الجماعة شرعت في تهديم الركائز الوطنية. مصر في عرفهم، ليست جغرافيا، وليست تاريخا.. العقيدة ترسم حدود الدولة، والإرث الذي تركته الأجيال هو رجس من عمل الشيطان، ينبغي هدمه أو تحجيبه حتى ولو كان في حجم الأهرامات أو في قامة أو الهول. أما الآخرون، كل الآخرين، فهم مارقون لا بد من التخلص منهم. وهذا بالضبط، مثلا، ما فعله وزيرهم الذي جاء إلى وزارة الثقافة متأبطا مقصلة يطيح بها الرؤوس التي أينعت وحان قطافها. وقد استخدم واحد منهم جملة الحجاج بن يوسف الثقفي بنزعة دموية مفرطة. أما وزيرهم الخطير، فقد منح تهديد الحجاج تعليل ثقافي. فهو يستهين بالنخبة الثقافية الساقطة، ويريد استبدالها بنخبة أخرى يستولدها من الكتلة التي يمثلها. لم ينتبه الوزير إلى أن هذا التذاكي بطرح ثنائية «النخبة» والكتلة»، يضعه في خانة واحدة مع طاعن نجيب محفوظ، وقاتل فرج فودة، ومع الذي سمم حياة نصر حامد أبو زيد. ولعل الوزير وأقرانه من قيادات الجماعة، لم يهضموا من دروس جماعتهم، إلا درس «الحقد المقدس» الذي صاغه منظّرهم الأول سيّد قطب. (بالمناسبة يأخذ إسلاميون على قطب إغراقه في الشأن النظري على حساب العملي، فيسمونه سيّد كتب). ومن يدرس تحولات هذا المفكر، من شاعر وناقد أدبي مفتون بالعقاد ومريد لطه حسين، إلى داعية للعنف والكراهية، يكتشف بالتأكيد جذور هذا التحول، التي لم تخرج من البيئة المحلية. فتحولات سيّد قطب بدأت بعد زيارته إلى الولايات المتحدة وإقامته لفترة فيها، ومن ثم اطلاعه على كتابات الفقيه الهندي أبو الأعلى المودودي. لقد تحصنت الجماعة بنوع من الطهارة الدينية والنقاء الثوري. وهي حصانة أفادتها مع العامة، التي هللت لواحد منهم قال بعدما شوهد وهو يخرج بحقيبة كبيرة من السفارة الإنجليزية: لقد عرضنا عليهم الإسلام فأبوا، ففرضنا عليهم الجزية! والنتيجة؟ أدركت «الكتلة» والنخبة»، معا، إن الطهارة المدعاة مصابة بدنس العنف والإلغاء والتعمية.. adelk58@hotmail.com