يكتفي الشعراء عادةً بما يتركه الحدث من أثر تتلقفه بنية القصيدة وتصهره في كيانها المدوِّن للشعور والانفعال. أما الروائيون فيتنبؤون لمستقبل مجتمعاتهم. الخيال الذي يتيحه السرد يعين على إنجاز المهمة. استباق للزمن وتوقع لما سيكون عليه القادم من الأيام. وفي صعود الدكتاتوريات وشيوع الشمولية بمعناها السياسي والفكري نستذكر تنبؤات جورج أورويل الذي استعان بالترميز واستظل بالكنايات الحكائية ليمرر خطابه: الثوار في مزرعة الحيوان يبيعون رعيتهم لعدوّهم بعد تحريرهم منه! حكاية تحيل إلى القص الحيواني وشخصياته المرمزة لكنها انتقادية الطابع، دلالاتها بعيدة الأثر رغم الطابع الحكائي المبسط الذي أغرى السينمائيين بإخراجها في هيئة رسوم متحركة مكتفين بما تشير إليه الشخصيات من معادل. لكن أورويل في (1984) روايته المثيرة للجدل واختلاف التأويلات يحذر من الحكم الشمولي الذي هيمن على العالم، ويشير إلى ما سيخلفه التسلط الأحادي وحكم الحزب الواحد من مسخ للإرادة الإنسانية، وتحويل الأفراد إلى آلات تنفذ رغبات الدكتاتور الذي يمثله الأخ الأكبر في العمل، لكن ونستون سميث في الرواية يرفض ذلك ويعمد إلى مقاومة التعبئة العامة للمجتمع. إنه آخر رجل في أوروباـ وهو العنوان الأول للرواية قبل نشرهاـ تكون رسالته فضح تلك الإهانة التي تمثلها السلطة. كان العالم خارجا للتو من حربه الثانية. الفاشية والنازية تتقهقران وتنهزمان لتظهر أشكال جديدة للاستعباد. الفكر البوليسي المتخفي وراء العقائد والشعارات يتعقب الإرادة الشخصية ويحجزها عن الفعل. سمة تتقاسمها الأنظمة مختلفة المسميات والأوصاف. ما يحدث في البلدان الاشتراكية سيتحقق في الأنظمة الرأسمالية. وها هي تنبؤات أورويل حقائق ووقائع على أرض الواقع. تتفنن السلطات اليوم في النهج البوليسي. واكثر الأنظمة تشدقا بالديمقراطية تتعقب حتى مكالمات مواطنيها، وبكبسة زر واحدة تعرف كل ما تريد من خصوصيات الفرد؛ لأنه رقم في حاسوبها الدقيق والمنبثق عن فكر بوليسي رصده أورويل ومثّله بالأخ الأكبر وخطبه وتعليماته. التأويلات التي أنتجتها مجمل قراءات الرواية تعلل اختيار العنوان (سنة 1984) بكونه مقلوب السنة التي فرغ أورويل فيها من كتابة الرواية (1948) لكنه كان يقصد دون شك تزمين الحدث والتنبؤ به وشيكاً. تنبؤات سيتأثر بها كتاب كثيرون، يدينون القمع والترهيب، ويخيفهم العبث بمصير البشرية، أو مسخ الطبيعة الإنسانية؛ ليظل الأخوة الكبار متسبدين بمصائر البشر متطاولين على ماضيهم وحاضرهم، ومصادرين مستقبلهم ووعيهم. ومن المؤلم حقا أن تكون الإصوليات دينية أو سياسية هي الوريث الأوحد للدكتاتوريات. كل ذلك تقوله أعمال أورويل التي اتضحت مراجعها ومصادرها: العذاب البشري وغياب الوعي، فضلا عن تبعات الحرب الكونية الثانية، وتعديل خرائط العالم. رسالة غامضة الهدف لكنها نجحت في تجريد الأحداث من مكانيتها، لكي تعمم دلالاتها. وهذا يفسر ضيق الأطراف شرقا وغربا بالرواية رغم التناقض بينها، وكل منها عدها مناوئة لتوجهاته.