أحياناً الكتّاب يمشون ويتعثرون بمواضيع في طريقهم، أحياناً يجبرون أن يكونوا شهودا غير زور على حالات إنسانية، مثلما انتشلني ذات مرة زوجان في خريف عمرهما كانا يجاورانني في احتلال مكان قصيّ مطل على المتوسط، لكنهما فرضا عليّ أن أبقى مستمعاً بعدما عطلا يدي التي ترقص على الكمبيوتر وهي تلاحق حروفاً مختلفة في موضوع مختلف، فلم أقدر إلا أن أخط ما كانا فيه من حالات عتاب إنساني على مضي سنوات العشرة، وكيف تفرقا كل واحد في مدينة نتيجة العصاب اليومي، ومشكلات الحياة، وتمترس كل واحد منهما خلف قناعاته، حتى وصلا لطريق مسدود، كانا على تلك الطاولة كصديقين يبثان ندمهما، ويطرحان أموراً صغيرة كانت تعكر ذاك الوقت، وتشكل ضغطاً عليهما، هما اليوم أكثر هدوءاً، وأقل تشنجاً، لكن جروح الماضي حين تنكش تجعل التوتر حاضراً، الزوجة تعترف بتلك الأخطاء، وتلك المناكفات التي جعلته يتركها ويهجرها إلى فرنسا بعدما ترك لها بيت الزوجية وحديقته التي طالما أشتركا في العناية بها، الزوجة تبكي على فطورهما الصباحي فيها، وجلسات قهوة المساء، الزوج يلقي بكل ثقل تلك الأخطاء الصغيرة عليها، الزوجة تبكي وتقول: لا تزدني شجناً ولا تجعلني أنشج بدمعي، فأنا الآن كبيرة، ولا تتحمل صحتي، الزوج: أتركيني أكمل حديثي، ولا تقاطعيني كعادتك، الزوجة: أيه يا عيني أكمل، الزوج يتحدث بشكل عملي وعقلي في تأمين ضرورياتها ومصروفاتها، الزوجة تتحدث بعاطفة: أريدك أنت، وأريد حضورك في يومي، لقد كبرت، الزوج: أنت الآن تعيشين مع أولادك، وأنا أعيش وحدي، ومع من قبلت أن تسكن معي بأشياء مشتركة بيننا، وبيني وبينك بحر أزرق طويل، الزوجة: الأولاد كبروا، وما عدت أراهم إلا حينما يصحون صباحاً، وحين يعودون مساء، وأنا أغالب نومي المتقطع، الزوج: لا فائدة من الرجوع، فالعمر لا يسمح بعودة تلك المشاحنات، وإذا انقضت حياتي قبلك، هناك راتبي التقاعدي سيعيشك بعدي، الزوجة: إن شاء الله قبلك، الزوج: يا صفية، بلا عواطف الزمن ليس في صالحنا، لقد تجاوزنا الستين، وما بقي ليس بأكثر مما راح، الزوجة تسحب زوجها إلى ذكريات وتفاصيل في بيتهما القديم سجادة ثمينة على الجدار، البوم صور رحلة لإيطاليا، وأشياء عزيزة تحتفظ بها في صندوق خشبي اشترياه من أفريقيا، الزوج: هذه أشياء جميلة، ما دمت حافظت عليها، لكنها لا تعيدنا لبعض، هناك أمور كبيرة، وكلمات قاسية فرضت عليّ الرحيل، وسمعتها منك، الزوجة: أنا من قلت تلك الكلمات، وإذا قلتها أنا الآن نسيت، الزوج: لكني لم أنس، لقد رافقتني طوال سنوات الافتراق، الزوجة: شو قاسي بعدك، الزوج: خلينا نحل المسائل القانونية أولاً، وبعدها ألف حلال لمشاكلنا الاجتماعية، افترقا وتركا خلفهما صوتهما النادم، ورنّة ثقل خطواتهما، وضجة في الرأس أبكتني من الداخل! ناصر الظاهري | amood8@yahoo.com