كنت أيام مراهقتي الفكرية أتصور الهوية الثقافية كتلة مصمتة لا تعدد فيها ولا تنوع. وبالقدر نفسه،? ?كنت أستجيب لما زرعه فينا دعاة القومية بمعناها الضيق من أنها الهوية السياسية التي تجمع العرب،? ?وأنه لا ثقافة فيها إلا لثقافة عربية واحدة. وكانت هذه النزعة الواحدية تظهر في هتافاتنا الحماسية في البرلمان الناصري والبعثي، فكنا نصرخ مطالبين بشعب عربي واحد،? ?وجيش عربي واحد،? ?وبالطبع،? ?زعيم عربي واحد للوطن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج. ولذلك كنا نرى في الحديث عن الفرعونية أو الفينيقية أو? ?غيرهما من الحضارات القديمة التي كانت موجودة في الأرض العربية حديثا لا لزوم له ولا محل له في خطاب القومية العربية الأحادي الاتجاه الذي دأب على إلغاء التعدد والتنوع. وكانت النتيجة أنني لم أدرس التاريخ الفرعوني لمصر، ولا أظن العراقي القومي بالمنظور الضيق درس التاريخ الأشوري والبابلي. وعندما انفتح وعينا القومي هونا أدركنا أنه لا تعارض بين القومية العربية التي هي اختراع معاصر والتنوع التاريخي لحضارات الوطن العربي،? ?فلا تعارض بين أن أعتز بمصريتي وتاريخها الحضاري كما أعتز بهويتي العربية وقوميتي في الوقت نفسه. ومع نضج عقولنا أكثر أصبحنا نرى القومية العربية وحدة تقوم على التنوع، بالضبط كما تقوم الثقافة العربية من حيث هي وحدة على التنوع. وأذكر أن أول من جعلني أقتنع بذلك هو نقاشي مع أستاذي عبدالعزيز الأهواني عن النزعة الإقليمية التي كان? ?يدعو لها أمثال أمين الخولي وتلامذته مقابل مفهوم القومية العربية التي كان ساطع الحصري هو منظرها الأكبر. وقد خرجت من هذا النقاش مؤمنا أن القومية العربية بمفهومها الرحب لا تتعارض ـ على المستوى الأدبي ـ من أن? ?يكون لكل قطر عربي خصوصيته الثقافية المرتبطة بتاريخه الخاص الذىي يتواشج في النهاية مع التاريخ القومي العام. ومن يومها أدركت أنه لا تناقض بين اعتزاز صديقي عبد العزيز المقالح بتاريخه اليمني واعتزازه بقوميته العربية وتاريخها القومي على السواء. وأعتقد أن تلك كانت الفترة التي تعلمت فيها الحذر في استخدام الصفة الإنجليزية National? ?التي تدل على ما هو قومي ووطني على السواء،? ?خصوصا أن المقابل الأجنبي لمصطلح القومية العربية هو? ?Arab Nationalism? ?بينما? ?يمكن لنا أن نتحدث عن أدب وطني مصري،? ?أخذ الإلحاح يتزايد على المطالبة به بعد ثورة? ?1919،? ?وذلك مقابل أدب قومي تتمثل فيه نزعة القومية العربية التي بدأ حزب البعث الدعوة إليها،? ?وصعد بها عبد الناصر إلى الذروة التي جمعت العرب جميعا بعد حرب? ?1956? ?التي كانت علامة فارقة في التاريخ العربي الحديث،? ?وعنصرا حاسما أدى إلى تسارع رحيل الاستعمار القديم عن الأرض العربية،? ?ليبدأ زمن الاستعمار الجديد،? ?منذ أن كنا نغني?:? بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان