يكفي أن تحظى في زاوية صغيرة مظللة بالشجر في شارع الحمراء في صباح مبكر بشيء من البرودة التي تضحك البدن، تحتسي قهوتك الطيبة، مستشعراً الدفء بيديك وأنت تحتضن الكأس مثل يدي تمثال يتأمل أو يتفكر، تتذكر أياماً جميلة في بيروت، كانت وقتها تمنحك بعداً جديداً في الحياة، ثمة حنين يسحبك لها كلما سنحت لك فرصة مثل هذا اللقاء الصباحي، وقتها كانت الأشياء شحيحة على غير عادة بيروت، بعد أثقال هزائم الحرب، جئت تلتمس بعض العافية في المدينة التي تحب وتعرف، كانت أياماً باسمة بتحدياتها وواعدة بجميلها، اليوم حين تتعنى وتذهب لتفرح بالقبض على تلك اللحظات الهاربة أو تصادف شيئاً من جميلها العابر تفرح وتريد منها أن تعيدك ولو قليلاً للوراء، ولو قليلاً لأمور عزيزة على النفس، ومتعة طعم الصباح، وتلك اليقظة المبكرة في عيون المارة، تحتسي قهوتك التي تكرهها فاترة، وتفلي جريدك كموظف متقاعد، كسول يستدفئ الأماكن، وينعدي بمحبتها، تطول التأمل والتفحص وقراءة وجوه الناس، يبكيك سرعة حركة الزمن عليها، وقسوة وطأته على الجسد، كيف يثني الركب، ويعكف الظهر، كيف يحفر أخاديد في الخد، وتجاعيد على الجبهة، ويضعف النظر، ويخشّع الصدر، الشوارع وحدها الحاضرة والشاهدة على تقلب البشر، عرفت شحاذاً هجرها حين باع نفسه للمال، وطلب أن يدفن مع المال، عرفت تاجراً غنياً كان يعاقر التجارة ولعب الميسر، فخسر اللعبتين، عرفت رجلاً مشحماً، غاضباً، غاصباً، يأكل من كل حانوت، واليوم يأكل السكري أعضاءه واحداً تلو الآخر، الشوارع شواهد، والناس تتبدل ولا تتعقل، الكل راكض خلف غيّه، يسابق ظله، وحدك أنت الجالس تحت تلك الشجرة تنظر في جدلية الإنسان والعصر والخسر، تنظر لحارس في زيه الجديد الممل، كرسيه البلاستيكي المربوط في شجرة عارية من أغصان الشتاء، فضول نابع من رتابة عمله يجعله يتبع الناس بعيونه، تجده يمط رقبته ليقرأ عناوين الصحف من بعيد في أيدي رواد المقهى، شرفة مخلصة لهذا الشارع العتيق تخص امرأة عانت طويلاً وكثيراً في المهجر، وحدهم الأحفاد جاءوا بها، ولم تجدهم، غير حفيدة شابة تتركها وحدها مع قهوتها وأعواد سيجارتها لتتوحد بهاتفها، سائح بخيل يبدو شحه من الكيس البلاستيكي الرقيق الذي ينم عن حاجيات ذوت من الشمس، ومن تقليب أيدي المشترين، زائر للمدينة، يشغل غرفة رخيصة، ينازع نادل المقهى عن سوء خدمات الإنترنت، ويلوح للناس بأهميته من خلال هاتفه الذي بحجم الكف، عائلة حلبية من مظاهر الملابس التي تميزها، تبحث عن استقرار في مدينة مقترحة، لا تهديد للمال فيها، شابة رياضية ببدلتها الزرقاء الفاتحة تعرف أنها جميلة، وتصر أن يعترف الناس بذلك، صحفي يتعامل بالقطعة مع مجلات في الخليج غير راض عن نفسه كثيراً.. ما أجمل الصباح.. ذاك الصباح!


amood8@yahoo.com