وقف رافعاً رأسه، محدقاً ببصره في الغيوم التي تشكلت وتتشكل منذ أيام، حدق بعمق، ومن كل جوارحه تمنى أن يكون غيمة، وأن يختفي إلى الأبد، لكن ما حدث أن الغيوم كانت قد بللته بالمطر، وغسلته من قمة رأسه، حتى صار كله بين رقة الماء وبرودته، والهواء الذي هب، وحرك بقايا اليأس المتشبث به، وذهب بها بعيداً، حتى أن شعر الرجل الذي كان تواً يرغب من كل أعماقه في أن يغادر هذه الحياة، هذا الواقع الثابت وغير المتغير، الواقع الذي يكرر نفسه كل يوم أمام عينيه، ولا يحدث أي شيء، شعر أنه مغمور بالسعادة والفرح، ويود أن يتحرك في اتساع الأرض كلها، أن يكون متحققاً في الزمن. ذلك لأن الماء حين هطل مطراً من سماء الخالق الواسعة باتساع محبته قد مس قلبه وغسله من الشوائب، فأضاء قبساً في دهاليز القلب، مده بشعور كبير بأن المساحة المفتوحة في يومه ملأى بالحركة والجديد، إنه قادر على أن يرى أبعد من حدود اليوم، أن يمتد بصره في اتساع شاسع من الأرض ومن الماء، أن يكون شفافاً وصافياً كنبع يخرج من بين صخور مغسولة بالثلج، هكذا أصبح قادراً على أن يحب، وأن يمسح كل الخطايا، خطايا الآخرين وخطاياه، خطايا من حبهم، ومن شقوا في طريقه الخنادق كي لا يمر، ها هو الإنسان قد فعل في داخله فعل السحر، وطهره بالحب، إنه يتسامح ويمضي، ويعرف جيداً أن يقفز على الصغائر، ولا يكترث لمن تعلو وجوههم الخديعة، وشاب رؤسهم وهم العظمة. إنه يعرف أن في البشر أفعالاً لا تطاق، سلوكيات تنتمي للسلبي تماماً، للشر في تجسداته اليومية على الأرض، واكتساحه المشهد اليومي من الحياة، إنه يعرف أن الطرق السليمة والطيبة والبريئة لا تؤدي دائماً إلى المبتغى والمراد، يعرف أن في البشر قلوباً قاسية في المطلق، وأنها لا تلين، ولا تغفر، ولا تتسامح، ولا ترق، إنها لا تعرف من المحب اسمه، وهي على استعداد دائماً لأن تبيد، وتلغي، وتهمش، بلا أدنى اعتبار لأي قيمة أخلاقية أو حتى قانونية، حين يكون في يدها تسيير القانون. يعرف ويعرف، ويحزنه هذا الواقع المفتوح على الأسى، ومن الهواء الملوث، والتفكير المبرمج والمحدد سلفاً، أنه خلاص، وأنه المنجاة، والرؤية المشوشة المندفعة نحو تكريس الموت، والقبح. يعرف، ولكنه اغتسل برائحة الصباح، وسلم على شروق الشمس، ودس في نورها روحه، فأنارت الجسد، ونسمات الشعور، وقلبه، ودفعته النسمات نحو الماء، فعام نحو المنطقة البهية من الحياة، متسامياً، ونقياً كوردة لها رائحة العشاق الآسرة، قلبه عامر بالحب، وعيونه صافية، ونظرته عميقة حد ارتعاشة القلب. سعد جمعة | saadj mah@hotmail.com