تفيض رواية برهان شاوي بالجثث، وتفيض جثثه بالكلام. ولا بد أن يكون الأمر كذلك طالما إن مسرح الأحداث سيكون “مشرحة بغداد”، وهو المكان والعنوان الذي اختاره المؤلف لروايته. منذ عنوان المشهد الأول “الذبح بسكين المطبخ في البانيو”، تدخلك الرواية في أجواء كابوسية. لولا تواتر الأخبار الشبيهة من الميادين الساخنة، لبدا ذلك المشهد المرعب نوعا من مسرح العبث أو اللامعقول، لكن المؤلف ينقله بعين سينمائية محترفة. يجعله واقعيا، فجّا.. عندئذ تدرك أنك سوف تعايش بقية المشاهد بين جثث تكمل ماضيها، أو تستأنف مستقبلها في مشرحة. تبدو “مشرحة بغداد” على ضمور حجمها (158 صفحة)، متسعة بما فيه الكفاية لعالم، راود مخيلات الناس لكنه قلما انعكس في ما يكتبونه. عالم ما بعد الموت، أو ما يمكن تسميته ذلك البرزخ غير الموصوف بين الحياة والموت. يدخله المؤلف، متلبسا لبوس الحارس آدم، الساكن في المشرحة والمناط به حراسة أبوابها ومداخلها. آدم هذا، سوف يكون شاهدا وشريكا في الأحداث. يصادق الجثث، يتلصص عليها، يستمع إلى حكاياتها، والأهم من كل ذلك إن مصيره يرتبط بمصيرها. والجثث التي ترد إلى مشرحة برهان شاوي، دائما طازجة، ودائما مشوهة، ودائما ملأى بالحكايا والحواديث.. وانفجارات بغداد كريمة وزاخرة، وهي بالتالي تمثل رافدا لا ينضب للمشرحة وللرواية. ولهذا السبب، ربما، بدا الراوي انتقائيا خلال السرد، يلتقط من الجثث الحكايات القادرة على إغناء العمل الروائي. ولهذا السبب، أيضا، جاءت الرواية عبارة عن سلسلة من المشاهد المتلاحقة، التي تكوّن في مجملها المشهد الأكبر، بلا بنى تركيبية وبلا عقدة روائية، لولا... هذا الاستثناء تفرضه فكرة الرواية نفسها. فكرة ما بعد الموت. هؤلاء الذين يأخذهم الموت على حين غرة بقذيفة مجنونة أو انفجار ملعون، يحملون معهم سيرهم الذاتية إلى المشرحة. يستلقون على الأسرّة النقّالة أو في الثلاجات.. تمنحهم أوصالهم المقطّعة ووجوههم المشوهة طاقة حيوية على البوح. يروون كيف عاشوا وكيف ماتوا. يخافون. يرتعبون. يبحثون عن خلاص ما وهم يطرحون أسئلتهم الحارقة. الخلاص؟ وهل يتمتع الموتى بميزة التفكير في ما بعد؟ تبدو “مشرحة بغداد” الرواية والمكان، وكأنها خطوة إلى ذلك ألما بعد. من حق أمواتها أن يعيشوا حيواتهم كما يريدون، بعدما قصفت أعمارهم. من حقهم أن يتذكروا وأن يحلموا. لأنهم على الأقل صادقون، فالموتى لا يكذبون. ولأنهم على الأقل متشابهون، لا فضل لواحدهم على الآخر. ولهذا السبب فإن ذكورهم جميعا يحملون اسم آدم، ونساءهم كلهن يحملن اسم حواء. الصيغة الأولى للإنسان قبل أن تلوثه إنسانيته. رواية الرعب هذه التي كتبها برهان شاوي كالتقاطات من واقع الحال في بغداد، سرعان ما تصبح فانتازيا وحشية وموحشة. تتداخل فيها الجثث والأصوات. فجأة يصبح سيّد الساحة والمصائر كلب أسود هائل الحجم كالجاموس. يحكم ويقضي. تختفي من أمام الحارس آدم الجثث التي رافقها وأرّقته، باستثناء صبي قتيل، سوف يكشف للحارس أنه هو أيضا قتيل. وعلامة قتله رصاصة اخترقت جبينه. تختلط الحقائق ما بين الموت والحياة. هل الميت غائب وهل الحي يعيش؟ ذلك سؤال الحارس آدم لنفسه، وهو يبحث عن حقيقته وعن الجثث الهاربة في صبيحة بغدادية. راح الحارس آدم يشاهد الحياة الميتة تدب في بغداد. الشوارع تكتظ بجثث تستأنف حياتها. وهل ما يجري في شوارع المدن العربية غير ذلك؟ adelk58@hotmail.com