الحضارات لا تهوي من علو شاهق، إلى سحيق ماحق، ولا تذوب وتذبل إلا إذا تخطت حاجز العقل ودخلت متاهة العنجهية وفرد العضلات، ومد الأذرع إلى ما بعد حدودها الجغرافية. فأي دولة تملك حضارة ذات معنى، وثقافة ذات أثر، لا تستطيع أن تكون “عالمية” إلا بقدر ما تؤثر ولا تنفر بثقافتها، وبقدر ما تتسلح بأدوات الإقناع الثقافي، تكون الحضارة قد استكملت محيطها الفضائي وحققت مضمون الانتشار، ونالت استحقاق الاحترام والتقدير من قبل محيطات العالم الثقافية. الإغريق على الرغم من تهالك دولتهم اقتصادياً وسياسياً، إلا أن لا فلسفة تبدأ مقدمتها بدون الولوج إلى مآثر سقراط وأرسطو وأفلاطون الثقافية، ولم يزل الفكر الإنساني مهما شرق وغرب، ينحو نحو هذا المخزون الفلسفي في جوهر التفكير المثالي أو الوصفي، ومهما دخل العالم في سفسطة النظريات، إلا أنها لا تستطيع أن تغرد كلياً خارج سرب فلاسفة الإغريق. هذا يعني أن اليونان لم تزرع في البحار غواصات نووية، أو تصادر الفضاء الإنساني بسلاح بالستي، ولم تهدد باحتلال أرض الغير بغرض التوسع وفرد العضلات وفرض الأمر الواقع بالقوة. اليونان حققت سطوتها بفعل العقل وجهود المفكرين الذين واجهوا الموت والحرق والنفي والتشرد في سبيل إعلاء قامة الفكر، وتحقيق ما تصبو إليه الإنسانية من بحث عن الذات في خضم كون يتسع للفكرة ولا يكتفي بالحركة الواقفة عند نقطة الصفر. وعلى ضوء ما قدمته الفلسفة اليونانية من إضاءات فلسفية كانت المركبة الفلسفية الأولى التي انطلقت إلى الفضاء بوضع السؤال الكبير “من أنا” ثم “الأنا الأعلى” لتكتمل الصورة، وينضج المشهد الثقافي لدى كوكبة من علماء ومفكرين وفلاسفة ليقدموا للعالم عصارة جهد وثيمة أفكار فلسفية وضعت العالم أمام خريطة يونانية ناصعة، تفوح بعطر الإخلاص للخلاص من ربقة الأسئلة المعقدة والشائكة، وما داهم الإنسان منذ أن دب على أرض البسيطة حتى آخر الساعة من قلق فكري يمارس غياً ووعياً، ليضع الإنسان أمام مسؤولية في السعي إلى كشف معنى الضغينة، وتحقيق السلام النفسي بعيداً عن تورم الذات، والتعنت والتزمت، والتضخم والتورم الذي في حقيقته لا يساوي صفراً، إذا ما قورن الإنسان وحتى الدول بحجم القوى الطبيعية إذا ما اكفهرت، فإنها تستطيع أن تهلك حضارات وتبيد امبراطوريات حتى وإن تذرعت بذرائع لا يغيب فيها إلا العقل ولا يحضر إلا الزيف وغياب الحكمة واندحار الفطنة. فامبراطورية الحضارة المسيجة بثقافة الفطنة هي القوة الخارقة الوحيدة التي لا تُقهر ولا تنصهر بفعل الاحتباس الحراري وسياسات الشعوذة والرق السوداء.. فقوة الدول بقوة حضارتها المؤثرة ثقافياً. marafea@emi.ae