ذكرني الحديث عن مجلة «فصول» بذكرياتي مع صلاح عبد الصبور. كانت البداية دراسة نشرتها في أواخر الستينيات بعنوان «تطور الوزن والإيقاع في شعر صلاح عبد الصبور». وكان الفضل في نشرها يرجع إلى أستاذي شكري عياد الذي كان أيامها نائبا لرئيس تحرير مجلة «المجلة» القاهرية التي كان يرأس تحريرها يحيى حقي. وقد أعجبت الدراسة الكثيرين، ومنهم صلاح عبد الصبور الذي رأى فيها اهتماما بجماليات الإيقاع في شعره الذي لم يكن صدر منه سوى ثلاثة دواوين. هي: «الناس في بلادي»، و«أقول لكم»، و«أحلام الفارس القديم»، وهي الدواوين التي تناولت الوزن والإيقاع فيها بالتحليل النقدي الفني في تلك الدراسة الأولى لي في النقد التطبيقي، وطلب صلاح عبد الصبور بعد قراءة الدراسة من صديقنا المشترك حسن توفيق أن يأتي بي إليه، لكي يشكرني ويحييني على الدراسة. ذهب بي حسن توفيق إلى صلاح عبد الصبور في مكتبه في شارع 26 يوليو، وما إن جلست إليه حتى أزاح كل ما كان بداخلي من حذر وخجل يمكن أن ينشأ عندي مع لقائه الأول؛ فقد كان واحداً من كوكبة معدودة في العالم العربي كله. وقد جمع إلى صفة الإبداع الشعري صفة الإبداع النقدي الذي يمتاز بالرهافة والعمق والقدرة على النفاذ إلى جوهر الأعمال الإبداعية. ناهيك عن كونه مترجما قديرا من الإنجليزية التي نقل عنها رائعة ت. إس. إليوت «حفل كوكتيل»، و«جريمة قتل في الكاتدرائية» التي تأثر بها في كتابة مسرحيته عن «الحلاج». وقد أدرك هذه الحقيقة مترجم «الحلاج» إلى الإنجليزية،فجعل عنوان المسرحية بالإنجليزية «جريمة قتل في بغداد» ليلفت انتباه القارئ الإنجليزي منذ البداية إلى التأثر بإليوت. باختصار، كان صلاح عبد الصبور نجماً لامعاً، وأنا مجرد معيد غير معروف، مستجد في القسم الذي تخرج فيه صلاح عبد الصبور قبلي بعدد غير قليل من السنوات. ولكن روحه العذبة وتواضعه أزاحت كل ما يباعد بيني وبينه. وسرعان ما أخذ يحدثني حديث الصديق الحميم. فيحكي لي عن علاقته القديمة بالحزب الشيوعي في مصر، وكيف أن إيمانه بالشيوعية هو الذي جعله ينقض أفكار إليوت الرجعي ويعارضه معارضة نقدية في شعره، كما حدث في قصيدته «الملك لك» في ديوانه «الناس في بلادي» الذي كانت الكثير من قصائده تجسد انحيازاً طبقياً لأبناء بلده الفقراء والذي قطع ما بينه والرومانسية بسبب انتمائه إليهم، وحكى لي عن أن إيمانه بالماركسية نازعه الفكري الوجودي الذي توازى تأثيره مع التأثير الشيوعي في ديوان «الناس في بلادي» وخفف منه. ولكن كانت قطيعته مع الشيوعية عندما عرف غزو الاتحاد السوفييتي للمجر سنة 1956 ودخول الدبابات السوفييتية شوارع بودابست لتقتلع حكومة ناجي الإصلاحية. ورأى صلاح في ذلك غزواً لا يقل في بشاعته عن ما حدث في العدوان الثلاثي على مصر، فانتهى الإيمان بالشيوعية في داخله. واستبدل بالنزعة الماركسية نزعة إنسانية لم تخل من عناصر وجودية، ولكن هذه النزعة الإنسانية الوجودية لم تفقده إيمانه بالعدل الاجتماعي قط.