لا تجد هذه الخانة في أي جواز سفر، أو وثيقة أحوال شخصية، أو أي شهادة ميلاد أو حتى وثيقة وفاة. إنها نوع من الأعطية السماوية، أو الموهبة.. تعرف أنها موجودة، مقيمة في حياتك، في الدقائق والتفاصيل وفصيلة الدم، ولكنك لن تعرف أبداً: كيف؟ ولماذا؟ ومتى؟ تلك الأسئلة البديهية التي تكوّن إجاباتها معارف الإنسان الأساسية. تحضر من تلك الجليلات كثيرات، منهن من منحتك حليبها البهي وهزت مهدك بيمينها، ومنهن من تركت سيرتها في من ربتهم، فكانت وكأنها تهز العالم بيسارها. تكمل هذه وتلك عبارة نابوليون الخالدة، وقبل ذلك يكتبن درساً بليغاً عن الجنة تحت أقدام الأمهات. عادت الأم بجلالها إلى الذاكرة مع رواية، من الأدب الكوري، قرأتها هذا الأسبوع بعنوان «أرجوك اعتنِ بأمي» لمؤلفتها (كيونغ سوك شين). الرواية تقليدية بعنوانها وفي بنيانها، لكنها تفيض بتلك المشاعر التي تبدو وكأنها تكتشف للمرة الأولى. تضيع الأم فجأة في محطة القطار الرئيسية في «سيول»، يسبق الأب الريفي زوجته المتعبة إلى القطار. يتحرك القطار وتبقى الأم على الرصيف تواجه مصيرها. في الأيام، والأسابيع، والأشهر التالية، سوف ينخرط الأولاد، خصوصاً الابن الأكبر وأخته الكاتبة والروائية في حملة متقطعة الأنفاس بحثاً عن الأم الضائعة. سوف يكتشفون أن الأم التي كانت حاضرة في حياتهم بحكم الطبيعة، وبقوة العادة، أصبحت أكثر حضوراً بطغيان الغياب. مع كل دليل واهن أو قوي، يقودهم لكي يقتفوا أثرها في مكان ما، يندفعون في الحقيقة وراء اقتفاء أثر أنفسهم التائهة في غيبة الأم. يعثرون على تلك اللحظات التي مرت وهم تحت كنفها، من دون أن يعيروها انتباهاً، فقد كانت الأم بالنسبة إليهم هي الأم، هكذا خلقت، وتلك هي المهمة التي انتدبت من أجلها. أما ما وراء ذلك، فتنمحي عفوياً صورة الإنسان الذي كانته. كان غريباً أن تنتبه الابنة متأخرة أن لأمها أخاً. كانت دائماً تشير إليه بعبارة خالكم. وبعد عودته من غيبة طويلة اندفعت وهي تناديه بلهفة: أخي. تنتهي الرواية الكورية من غير أن نعرف مصير الأم، ولكننا نتعرف إلى الأم نفسها: معاناتها خلف دموعها العالقة، أوجاعها المخفية عن الأولاد، حدبها على الآخرين من غير أولادها الذين هاجروا إلى المدينة، خصوصاً صورتها الدائمة والأزلية في المطبخ. تقول الأم الكورية لابنتها: «إنني لا أحب المطبخ ولا أكرهه، فأنا أطهي لأن هذا واجبي». تلك صورة سوف نجد شبيهاً لها في مطبخ كل أم. هكذا كانت الحاجة أمينة زوجة السيد أحمد عبدالجواد في ثلاثية محفوظ. ظلت في المطبخ تراقب اصطخابات الحياة من حولها، وعندما هتف لها الداعي لزيارة مقام الحسين، عادت من مغامرتها السرية مكسورة الساق. وكل أم أخرى خلدها الأدب، كان مطبخها عنوان أمومتها، فحورية أم محمود درويش فاحت رائحة خبزها الطازج وقهوتها المهيّلة من قصيدته، وبطلة مكسيم غوركي في روايته «الأم» المؤسسة لأدب الواقعية الاشتراكية، مارست أمومتها في مطبخها، قبل أن تسير على طريق ابنها المناضل البلشفي، فتشارك بالمظاهرات، وتوزع المناشير، وتنقل التعليمات إلى الخلايا، وتأوي المطاردين وتمنحهم من طعامها، قبل أن تسقط تحت راية قضيتها الكبرى التي انخرطت فيها بمشاعر الأم. حتى أم حنان الشيخ، الروائية اللبنانية، لم تتنكر لنزعات الأمومة في اعترافاتها المبهرة التي صاغتها ابنتها تحت عنوان «حكايتي شرح يطول».. تلك مهنة سماوية لا ندرك حاجتنا إليها إلا عندما نفقدها. adelk58@hotmail.com