مرت خمسة قرون على غياب الفردوس الأندلسي، لكنه لم يغادر موقعه حتى الآن في الحلم الجماعي لأهل المغارب، حتى أصبح شعار “عودة الأندلس” الذي رفعه علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال المغربي تعبيرا عما تجذر في وجدان الجماعة، وتغنت به الجوقات الموسيقية وهي تتلو الموشحات بنغمة رتيبة، وفي مقدمتها هذا الموشح الذي نعرض له للسان الدين بن الخطيب: وإن يكن جار وخاب الأمل وفؤاد الصب بالشوق يذوب فهو للنفس حبيب أول ليس في الحب لمحبوب ذنوب أمره معتمل ممتثل في ضلوع قد براها وقلوب حكم اللحظ بها فاحتكما لم يراقب في ضفاف الأنفس منصف المظلوم ممن ظلما ومجازى البر عنها والمس فقدان الوطن والنفي منه هو الجور الأعظم الذي يفري كبد ابن الخطيب، وهو يكنى عنه بظلم المحبوب، وخيبة أمل العاشق فيمن يذوب قلبه صبابة إليه، وهو ظلم مرحب به في عرف أهل الهوى، مغفور له، يساوي العدل عن ابن سهل: فهو عندي عادل إن ظلما وعذولي نطقه كالخرس خاصة إذا كان المحبوب هو أول استهلال العشق وفاتحة الصبابة، ومازالت كلمات أبي تمام يتردد صداها لدى كل الشعراء، خاصة لأنها أيضا ترتبط بالوطن كما هي عند ابن الخطيب الغرناطي: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يعشقه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل كما أن نفي الذنوب عن الأحباب، بل والاعتراف بتحمل أخطاء المحبوب كان قد سبق إليها ابن سهل في نموذجه السابق عندما قال: أيها السائل عن جرمي لديه لي جزاء الذنب وهو المذنب ومع أننا ندرك أن الشاعر اللاحق لا يمكن له أن يتعقب سابقيه، ولا أن يضع نصوصهم نصب عينيه كي يقتفي أثرها، بل يتلبس حالته الخاصة ويتمثل موقفه المتميز، ويمتلئ بشحنته الوجدانية ثم ينطلق في الكتابة ليباريه ويتجاوزه كاشفا عن قدرته حتى يحوز قصب السبق الذي يبتغيه. غير أن تتبع حفريات النصوص وتأويل سياقات التوازي وتفسير دلالات الاختلاف هو الذي يفتح لنا أبواب الكشف عن خصوصية الأساليب الشعرية. فإذا جئنا للبيتين الأخيرين من مقطوعة ابن الخطيب، وجدناهما يدوران عما يفعله لحظ المحب في مهجة المحبوب الضعيف، ولست أدري كيف يصح في مذهبه أن يستوي المحسن والمسيء، ونتذكر ما يقابل ذلك عند ابن سهل من قوله: تركت أجفانه من رمقي أثر النمل على صم الصفا وجدنا ابن سهل أبلغ وأنجع في التمثيل التصويري لمصرع العاشق تحت لحظ المعشوق ونظراته الصاعقة التي لا تبقي أثر لمقاومته.