هل “الحلم الأميركي” حقيقة أم وهم؟ لا يعرف الجواب عن هذا السؤال إلا النائمون. هم فقط تخاتلهم صورة النجاح الباهرة. يفترضون أنهم المعنيوين بقصيدة “تمثال الحرية” للشاعرة إيما لازاروس: “تعالوا إليّ أيها المتعبون والفقراء”. أما ما بعد هذه الصورة الهلامية، فالمسألة تصبح أشد تعقيدا. لم يكتب العرب الذين خاضوا إرهاصات “الحلم الأميركي” وتحولاته، تجاربهم باستفاضة. منذ حركة شعراء المهجر في العالم الجديد، كان المبدع العربي المغترب يكتب لوعة حنينه إلى الفردوس المفقود. ينقل إلى قصائده ونصوصه الوطن الذي غادره كما هو، بلا إضافات أو توهمات. فتصبح تجربته في بلاد الغربة هي انتقال في الحيّز الجغرافي فحسب.. في السنوات الأخيرة، بدا وكأن المؤلف العربي يريد أن يسد هذه الفجوة الكتابية، عن الحلم والحالم والمحلوم به في صيغته الأميركية/ العربية. ظهرت أعمال روائية تعقد حبكتها السردية داخل كواليس المجتمع الأميركي. أو هذا ما أوحت به عناوينها على الأقل. تتصدر رواية علاء الأسواني “شيكاجو” هذا النوع من الروايات. عمل أدبي ممتاز، دارت أحداثه حول دارسين أو مدرسين مصريين يقيمون في شيكاجو الأميركية، وشبكة علاقاتهم مع بعضهم البعض، ومع زملائهم وأساتذتهم. عند هذا الحد تتوقف الصورة الأميركية. لا نرى منها إلا حوافها. نتف هامشية، لا تقرأ المجتمع، ولا تدل على ما يمور في داخله. من المؤكد إن علاء الأسواني، لم يكن يريد في روايته تحقيق هذا الهدف. ولكنه في كل الأحوال، يظل هدفا ضائعا أو ضالا عند الباحث عن صورة أميركية حقيقية في أعمال المبدعين العرب الذين يعيشون أو عاشوا في كنف العم سام. وهو هدف سيضيعه أيضا عملان جديدان نسبيا، اختارا حي بروكلين أكبر أحياء نيويورك وأكثرها تعددا وتنوعا كمسرح للأحداث: “بروكلين هايتس” لميرال الطحاوي، و”عناق عند جسر بروكلين” لعز الدين شكري فشير. في الروايتين تحضر تداعيات حيوات الشخوص في المجتمع المحلوم به، وفي الخلفية تداعيات الوطن الأم. قسوة هنا وقسوة هناك. خرجت شخصيات الروايتين من الوطن محمّلة بعبء الهامش، وعاشت تجاربها الأميركية على الهامش. انحصرت روايتا الطحاوي وفشير عند ضفاف المجتمع الأميركي. أخذتا منه العنوان، تماما كما فعل قبلهما علاء الأسواني. هذا الإنحصار حاول تجاوزه ربيع جابر في روايته “أميركا”. كتب سردية مشوّقة عن حياة المهاجرين الأوائل إلى المجتمع الأميركي الناشئ. لكنه في تتبع مسيرة هؤلاء كان يلقي ضوءا كاشفا على بداية التشكّل الإمبراطوري للولايات المتحدة. وضع أمام قرائه لافتات تدل على التحولات المقبلة لهذا البلد الذي صنعته اندماجات ثقافية هائلة. لكن الروائي الأقدر على الدخول إلى أعمق أعماق المجتمع الأميركي، سيكون صنع الله إبراهيم في عمله المبهر “أمريكانلي”. لم يبتدع إبداهيم جديدا في ذريعته السردية. دارس مصري في ولاية فرانسيسكو. لكنه كعادته يدخل من هذا الباب، لكي ينقّب في تلافيف وتجاويف العقل والقلب الأميركيين. يكتب بحثا أنثروبولوجيا، يغتني بالتوثيق والتحليل، في التاريخ والسياسة والاجتماع والدين والأخلاق والاقتصاد، والإنعكاسات النفسية لكل ذلك على الفرد الأميركي. لو أزلنا كل اللعبة السردية من “أمريكانلي”، فإننا سوف نفهم مثلا لماذا اختارت أميركا أن تكون طاقتها الكهربائية بقوة 110 فولت. وسنعرف خارطة توزيع القوى العاملة، والقواعد التي تتحكم بأجورها. وسنكتشف حقيقة ظواهر التمرد الاجتماعي المتمثلة في حركات مثل “البانك” مثلا. لم يقرأ المصابون بداء “الحلم الأميركي” وثيقة صنع الله إبراهيم. adelk58@hotmail.com