الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سقراط أيضاً لا يعرف!

سقراط أيضاً لا يعرف!
19 ابريل 2012
يقال إن من يمتلك المعرفة يمتلك القوة، فالحضارات لا تقوم بالجهل والتلقائية والسطحية في التفكير والتعاطي، بل إنها تقوم وتنهض وفق ما تملكه من عقول مميزة. على سبيل المثال الحضارة الغربية التي نهضت من أتون الصناعة وولدت من رحم التطوير التقني والاختراع والاكتشاف.. إلا أن البعض يرى إن هناك حضارات قامت وانتشرت حدودها فقط بالقوة العسكرية، وهذا غير صحيح على الإطلاق، كما أنه يفوت على من يدعي أن القوة العسكرية كانت السبب الوحيد في نهوض بعض الحضارات، انه لم يكن ليتحقق لها هذا التفوق لو أنها لم تملك الاستراتجية والأدوات القتالية المتطورة في ذلك الزمن لتتقدم خطوات كبيرة، وبالتالي تحقيق الانتصار العسكري. إذن من يملك عقول تضع خطط ويملك عقول تخترع أسلحة وتبتكر فنون قتالية جديدة، هو من تميز وتفوق، لكن تميزه وتفوقه يعود إلى العلم وتحديدا إلى المعرفة واكتشافاتها ومن ثم تسخيرها لتحقيق أهدافه سواء كانت هذه الأهداف والتطلعات إنسانية لخدمة البشرية أو للتوسع واحتلال الآخرين ومصادرة حقوقهم. ومن المفيد أن نعلم بأن جميع الشواهد تؤيد وتتفق على وجود التصاق بين الحضارة والمعرفة، ويكفي أن نسلط الضوء على أحد تعريفات الحضارة للدلالة، حيث يُرى أنها نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وإنها تتألف من عدة عناصر هي الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية ومتابعة العلوم والفنون. وهذه جميعها أليست معرفة؟ بل هناك وجهة نظر علمية تؤكد أن الحضارة ترتكز على البحث العلمي والفن التشكيلي بالدرجة الأولى فالجانب العلمي يتمثل في الابتكارات والتكنولوجيا وعلم الاجتماع... أما جانب الفن التشكيلي فيتمثل في الفنون المعمارية والمنحوتات وبعض الفنون التي تساهم في الرقي. فلو ركزنا بحثنا على أكبر الحضارات في العالم مثل الحضارة الرومانية سنجد أنها كانت تمتلك علماء وفنانين عظماء. فالفن والعلم هما عنصران متكاملان يقودان أي حضارة. وأنا أؤيد هذا القول تماما، وأتوجه له بقناعة تامة. بل أعتبر أن الحضارة كمفهوم شامل تعني كل ما يميز أمة عن أمة من حيث العادات والتقاليد وأسلوب المعيشة والملابس والتمسك بالقيم الدينية والأخلاقية ومقدرة الإنسان في كل حضارة على الإبداع في الفنون والآداب والعلوم. البحث عن المعرفة مرة أخرى العقل الإنساني بتسلحه بالمعرفة وشغفه بها هو المعيار لتميزه وتفوقه، وصدق فيلسوف الصين الشهير كونفوشيوس عندما قال: ابحث عن المعرفة فإن المعرفة لا تبحث عنك. لكن لماذا نسعى نحو المعرفة؟ لأنها القوة التي ستميزنا، ببساطة العلم الذي بواسطته نرتقي ونحلق نحو الفضاء، لذلك يجب أن نشجع السؤال والتقصي وننمي ثقافة الاستفهام من أجل التعلم، لذا لا يمكن أن يتم احتقار أي تساؤل أو التقليل منه أو من صاحبة. أتذكر في هذا السياق قصة تقول إن أحد الأشخاص سأل سقراط عن سبب ملوحة مياه البحر، فأجابه قائلاً: إذا أعلمتني المنفعة من ذلك أخبرتك السبب؟!. أتعجب لمَ لم يكتف سقراط بإجابته وحسب دون الرد عليه بهذه الطريقة؟! فهذا النوع من الأسئلة ليس تافهاً ولا يمكن اعتباره مضيعة للوقت.. بل في الحقيقة ما يحير العلماء ويشغل هواجسهم هي تلك الأسئلة البديهية التي رغم تلقائيتها وبساطتها تحتاج للبحث والتعمق التقصي والتعمق في العلم.. لو قرأ الباحثون والعلماء قصة سقراط هذه واقتنعوا بها لما وجدنا الإجابات على كثير من الاستفهامات المتعلقة بالطبيعة من حولنا.. لنأخذ على سبيل المثال، البحث في مجال الفضاء عن مواقع الكواكب والأجرام السماوية.. ففي الماضي لم يكن لهذه الملاحظات والأبحاث معنى لذلك تم تهميش كثير من العلماء المهتمين بالفضاء مثل غاليليو وهالي وغيرهم.. ولكننا اليوم نكتشف أنه بمعرفة مواقع الكواكب السيارة والأجرام بإمكاننا إرسال الأقمار الصناعية وبمعرفة تحولات القمر وتحركاته يمكننا التنبؤ بالمناخ وحوادث الفياضانات والكوارث الطبيعية.. المتحمسون لسقراط ـ محبيه الكثر وهم معذورون ـ قد يقولون إن سقراط يعلم الإجابة لكنه وجد أن الشخص الذي يسأل لا يملك من العلم ما يؤهله لفهم الإجابة، أو أنه رأى إن الإجابة قد تقود السائل لمعضلة أخرى لأنه ببساطة سيعجز عن الفهم والإدراك، وهذا القول يذكرني بما يردده البعض عند تصنيفهم للناس، وأن بعض القضايا الفقهية والشرعية، لا يمكن زج الناس فيها لأنهم “عوام” ولا يتم نقاش تلك القضايا إلا بواسطة العلماء وطلبة العلم فقط، وغني عن القول إن مثل هذا فيه تسطيح وتجهيل للناس والحكم على إدراكهم وعلى عقولهم بعمومية قاسية ظالمة. أعود لقصة سقراط فأقول لكل المنافحين عنه أنه فعلا لم يكن يعلم الإجابة أصلا والسبب بسيط وهو أن سبب ملوحة ماء البحر لم يكن قابلا للاكتشاف في عهد سقراط أي قبل أكثر من 2000 عام.. بل كان يحتاج لملاحظة شديدة من قبل علماء الجيولوجيا بالإضافة لأبحاث كيميائية واكتشاف عناصر جديدة تسبب هذه الملوحة. لقد عرف العلم الحديث إن المحيطات عند تكونها قبل ملايين السنين لم تكن مالحة بالأصل، لأنها تكونت نتيجة هطول الأمطار على مدار سنين عديدة، أيضاً تكونت البحيرات والأنهار وتشبعت الصخور بالأملاح.. لذلك عندما تجري الأنهار لتصب في المحيطات فإنها تحتك بالصخور المشبعة بمركبات كيميائية تشكل الملوحة من هذه المركبات “كلوريد الصوديوم”، حيث يُعد الصوديوم هو العنصر الأساسي لتكوين ملح البحار فهو العنصر النشيط والقابل للتفاعل مع العناصر الأخرى بسهولة والذوبان أيضاً.. تيارات الأنهار تحمل هذه الأملاح بدرجة خفيفة ليس بمقدورنا ملاحظتها، ولكن حالما تصب هذه المياه في البحار والمحيطات فإن الأملاح تصبح مركزة بسبب حرارة الشمس.. وبالتالي يصبح بمقدور حاسة التذوق لدينا أن تستشعر مدى ملوحة المحيطات والبحار. نعم إنها معرفة جهلها سقرط، وليس في هذا تقليل بحقه أو من مكانته الفلسفية، فهو من العلماء الذين خلدهم التاريخ بكثير من الاعتزاز والتقدير طوال أكثر من ألفين عام، ولا زالت آرائه وكلماته تنير الطريق لكل باحث في مجال العلوم الإنسانية والفكرية. دوافع السؤال أعود إلى كلمة الفيلسوف كونفوشيوس، لأنها قد تكون منطلقا مناسبا لمحاولة الفهم، ألا يعد السؤال هو أولى مراحل المعرفة؟ ولماذا يسأل الإنسان؟ أليس الدافع هو التعلم الذي يساعده في الحياة ويميزه. الإنسان يسأل من أجل حاجة إما أن تكون معيشية، كمن يسأل عن جودة البذور، وكيفية تسميد الأرض من أجل أن تكون أكثر خصوبة، وآخرين يسألون عن أساليب الكسب المادي، بل ويتعلمون الطرق والأساليب لتحقيق هذه الغاية، وفي هذا السياق تتنوع التساؤلات وتباعا لها تتنوع العلوم التي تحاول الإجابة عنها، هناك من يسأل لحاجة روحية ـ دينية ـ ويريد الاستزادة في هذا المجال، ووسيلته لتحقيق هذه الغاية هي السؤال. وأيضا نجد المؤلفات والكتب منذ فجر الديانات وحتى يومنا هذا تتناول التوضيح والترغيب والترهيب بالإجابة والتحليل... إلخ. إن أولى خطوات التعلم هي السؤال. ألا نلاحظ كم هم الأطفال كثيرو الأسئلة ويصل الحال ببعض الآباء والأمهات للتذمر والضيق من كثرة أسئلة أطفالهم، بل إن البعض منهم يستخدم العنف اللفظي، وقد يصل إلى العنف البدني لإسكات الطفل عن طرح المزيد من التساؤلات التي لا تستثني شيئا أبدا، وقد يغيب عن هذه الأسرة أن أسئلة الطفل تم تصنيفها كنوع من البديهة والنبوغ والموهبة بل وتعتبر مؤشرا لها، ويجب أن يتم تطويرها وتنميتها لا قمعها ولجمها.. السؤال بداية العلم والتفكير... من هذا المنطلق قد نسمع من يقول ما الفائدة التي تجعل شخصا عابرا يسأل سبب ملوحة ماء البحر؟ ولو أمعنا النظر في هذا الجانب، فإن هذا السؤال في محله تماما، لماذا؟ لأن الماء كما هو معروف عنصر الحياة، ولا يمكن للإنسان الاستغناء عنه، وفي ذلك العصر تحديدا كان شحيحا أو كان الحصول عليه فيه مشقة وصعوبة، ونعلم أن الماء كان عنصر جذب لتجمعات بشرية فكم من مدينة لم يكن لها أثر نمت وازدهرت بمجرد ما وجد فيها بئر ماء، وكذلك نعلم رحلات البدو وهم يقطعون الصحارى والفيافي بحثا عن الماء، لذلك توجه ذلك الرجل ليسأل عن شيء هو في الحقيقة في أمس الحاجة له. إذا صح التعبير فإن سقراط مارس نوعا من القمع ـ قمع التساؤل ـ سواء برد السؤال بسؤال آخر فيه تهكمية، أو أنه يحتاج لإجابة يعلم أن الذي أمامه لا يمكنه مجاراته بها. الغريب أن هناك بعضا من علماء الدين مارسوا أيضا مثل هذه الردود تجاه من يتقدم لطرح تساؤل عليهم، وهناك من ذهب لأبعد من هذا فوضع الفنون والضوابط التي تحدد وتؤطر آداب السؤال وطريقة طرحه وصياغته، ومن هذا المنطلق، ينبع تساؤل إجرائي: إذ كيف لعابر يسأل عما يهمه ويحتاجه، ويكون لديه استعداد في الوقت نفسه لدراسة وتعلّم فنون طرح السؤال وتوقيته وصيغته. ألا يقال صاحب الحاجة أعمى؟ مهما كان السؤال الذي يتبادر في أذهانكم لا تستحقروه، بل اطرحوه بقوة ورغبة لمعرفة الإجابة.. ولمن يملك العلم والمعرفة تذكروا أن لا تكونوا مثل سقراط في إجابته تلك!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©