قشّر غونتر غراس البصل فهطلت الدموع من عيون التماسيح. عندما كتب الألماني حامل جائزة نوبل سيرته تحت عنوان “أثناء تقشير البصل”، فاجأ الجميع باعترافاته الجريئة. قال إنه لم يكن جنديا عاديا في جيش النازي، بل انتهى إلى أن يكون عضوا في منظمة “فافن إس إس” المشهورة بارتكاباتها العنصرية. أراد غراس من صفحات كتابه أن تكون مطهرا من عذابات الذنب والحياء والكتمان، لكن العاصفة التي هبّت عليه كانت عاتية. اتهمه اليهود بالإجرام، وتحكمت عقدة الذنب بمطالعات بني وطنه. افترض صاحب “الطبل والصفيح” أنه تطهّر من ذنب ارتكبه يافعا، وتكتم عليه بالغا. وافترض، أيضا، أن قيمته الأدبية، وعمره الطاعن.. يسمحان له أن يقول “ما ينبغي أن يقال”، وهو عنوان قصيدته الأخيرة، التي شحذت في وجهه السيوف والاتهامات. القصة أصبحت معروفة. كتب غراس قصيدة هجا فيها إسرائيل النووية. وانتقد بلاده لأنها تريد أن تزودها بغواصة جديدة. وقد نشرت القصيدة في ثلاث صحف رئيسية ألمانية وإيطالية وإسبانية. يعتبر غراس إن عليه أن يقول كلمته الأخيرة. وهي كلمة ليست في السياسة بقدر ما هي في الأخلاق. يقول: “طاعنا في العمر، وبآخر قطرات الحبر:/ إن القوة النووية إسرائيل تهدد/ السلام العالمي الهش بطبيعته/ لأنه ينبغي أن يقال/ ما قد يفوت أوانه في الغد”. ينتقد الأديب الألماني نفسه في القصيدة، قبل أن يوجه النقد إلى الآخرين. ينتقد الصمت المطبق حيال حيازة اسرائيل أسلحة نووية تهدد بها “أعداءها”. يسأل: “لماذا أنا صامتٌ؟ ولماذا صمت طويلا طويلا؟”. ويجيب: “الصمت العام عن هذا الفعل الإجرامي/ الذي يندرج تحته صمتي/ أشعر به مثل كذبة تدينني/ إنه إرغام لم أرضخ له/ لاحت العقوبة/ الحكم الشائع: معاداة السامية”. إذن، يعرف غراس عقوبته مسبقا. وهي العقوبة التي حصّنت إسرائيل نفسها بها في وجه كل انتقاد غربي، ولو على حياء لسياساتها. كل إدانة لمجزرة ترتكبها هي “معاداة للسامية”. كل موقف ضد التوسع الإستيطاني هو “معاداة للسامية”. كل تأييد لحقوق الفلسطينيين في الأرض والحياة هو “معاداة للسامية”. هذا التوسع في استخدام “الدرع الأخلاقي”، جعل كثيرين من الغربيين يلوذون بالصمت، خصوصا في ألمانيا، حيث تنصب لعنة المحرقة فوق الرؤوس من جيل إلى جيل. لم يناقش أحد المشكلة التي طرحها غراس في قصيدته. الكل نبش في ملفاته القديمة، التي فتحها هو نفسه على الملأ. حتى بنيامين نتنياهو صوّر نفسه حملا في مواجهة الذئب. أزاح غراس عن صدره حجرا ثقيلا باعترافاته النازية، لكن الجميع يريد أن يطحنه بذلك الحجر، على الرغم من أنه لم يبرر ما فعله عندما كان في السابعة عشرة من عمره. لكنه أيضا لم يجعل من نفسه ضحية لعقدة الذنب المتحكمة ببلاده. أقرّ بهزيمة النظام، لكنه لم يستطع تجرّع إذلال الوطن. يذكر في سيرته بكثير من المرارة ذلك المشروع الذي “طرحه العنصري اليهودي مورغنتا، لتجريد الشعب الألماني من السلاح وتحويله إلى شعب من الفلاحين”. قال غونتر غراس كلمة أخيرة (؟) في منطقة محظور فيها الكلام. انهمك نقّاد في التمييز بين الذريعة الأدبية والذريعة الأخلاقية في قصيدته. لكن كلمته كانت حادة وقاطعة في قلوب من عنتهم. هكذا حصل قبله مع محمود درويش في قصيدته “عابرون في كلام عابر”.. كان الإثنان يسبحان في بحر التماسيح، فاستدرا من عيونها الدموع... adelk58@hotmail.com