عندما نقرأ الشعر الأندلسي، خاصة في مراحله المتأخرة، ندرك أن هناك بنية تخيلية حاكمة لكثير من صوره وتمثيلاته، تعتمد على فكرة التقابل والتناظر والمواجهة؛ وكأنها بنية قد استقرت في الوعي الجماعي. ولانريد أن نبالغ في التماس الأساس المادي لها، ابتداء من الوضع الجغرافي الذي يصل ويفصل بين العدوى القصوى والدنيا، بين الأندلس والمغرب، ثم بينهما معا في مقابل المشرق، كما يفصل بينهما أيضا وبين الآخر القشتالي المتربص بهما في الشمال والشرق، هذه المواجهة فرضت نفسها على المبدع الأندلسي وجدانيا، وترسبت فيما يبدو في أعماقه حتى سكنت لغته التي أصبحت مولعة بهذا التقابل، لا باعتباره حلية لفظية أو ملمحا زخرفيا خارجيا للكلام، بل باعتباره قوة مولدة للمفارقة وصانعة لما يكمن خلف الأوضاع المتناقضة من عنصر التقارب المتفاوت. وهذا لسان الدين بن الخطيب يقول في المقطع الخامس من موشحته: وبقلبي منكم مقتربُ بأحاديث المنى وهو بعيد قمر أطلع منه المغرب شقرة المغرى به وهو سعيد قد تساوى محسنٌ أو مذنب في هواه بين وعد ووعيد ساحر المقلة معسول اللمى جال في النفس مجال النفس سدد السهم وسمى ورمى ففؤادي نهبه المفترس فمن يسكن قلبه ويخالط حشاشته مقترب لروحه إذ يتمنى وصاله، فما يجعله شديد القرب منه إنما هو “أحاديث المنى” التي لا تفتأ تتلى فى اعماق وجدانه. مما يجعل من قربه المعنوي نفيا شديدا لبعده الحسيّ، وكم تفنن الشعراء فيما بعد، بالتغني بهذا “القريب البعيد” لكن شاعرنا يجسده في البيت التالي قمرا يطلع منه المغرب، فيضمر مقابلة أخرى مع الشمس التي تبزغ من المشرق، ثم لا يلبث أن يطرز الشطر الثاني بمقابلة اوضح في ارتباطها بالمشاعر؛ حيث يشكو من شقاء المغرم بالجمال معربا في الآن ذاته عن سعادته بهذا الشقاء، فيصبح هذا الجمع بين المتقابلات مولدا للمشاعر المركبة والعواطف المعقدة البعيدة عما يألفه الناس، ثم يمعن الشاعر في توظيف هذا التقابل في كل جملة من شعره؛ إذ يستوي لديه المحسن والمذنب في الهوى. هذه الجديلة المحكمة من الثنائيات المتقابلة هي الوحيدة القادرة على تجسيد بنية الحياة المركبة في مصائرها المتناقضة. وكان الشاعر يحس بأنه قد أسرف على نفسه وقرائه بهذه المواجهات العاطفية واللغوية فيعمد إلى استرجاع إيقاع النموذج الأول من موشحة ابن سهل بالتناصّ معها فيقول عن محبوبه: ساحر المقلة معسول اللمى جال في النفس مجال النفس سدد السهم وسمى ورمى ففؤادي نهبه المفترس فيذكرنا على التو ببيت ابن سهل البديع: فاحم اللمة معسول اللمى ساحر الغنج شهيّ اللعس إذ يعدل ابن الخطيب عن نموذج التقابل ليمضي في تجسيد سحر محبوبه، مرتفعا به من شخص مفرد إلى ما يشارف رمز الوطن.