سألني بعض قرائي: أين زاويتك منذ أسبوعين؟ وها أنا أجيب عبر هذه السطور.
لم أغب عنكم فقط، فقد غبت عن نفسي أيضاً، فجأة وجدتني وقد تلبست جسداً آخر لا يشبهني، واقتحمتني روح لا تمت لي بصلة؛ خلال الأسابيع الماضية كنت في طريق غريب لم أعهده، لم أمتلك فيه القدرة على الكتابة، وهو ما زاد من ألمي؛ وإن كنت قد امتلأت بالكتابة إلا أنه امتلاء وصل لدرجة العجز عن التعبير؛ ولكي أتمكن من عبور هذا الطريق بروح سليمة ها أنا أجبر نفسي على الكتابة.. لأتداوى، وأدفع نفسي إلى جلسة مصالحة نفسية على العلن، وأشارككم مشاعر شغلتني.. على أمل أن أنهي علاقتي بها.
منذ أكثر عن أسبوعين تعرضت أقرب صديقاتي إلى قلبي لحادث مروع على طريق دبي-أبوظبي، وتسبب في مكوثها طوال تلك الفترة مستلقية على ظهرها لا تتحرك بسبب الكسور والشروخ، تلقيت الخبر بشكل جنوني وحتى لحظة كتابتي لهذه السطور ما زلت أشعر بألم غريب لم أجربه طوال حياتي؛ ألم لا أستطيع تفسيره، ولكنه يدور حول الخوف.. بل الرعب.. الرعب من الفقد؛ تعاظم هذا الشعور لدي وأنا معها في سيارة الإسعاف بعد قرار نقلها من مستشفى راشد في دبي إلى مستشفى زايد بأبوظبي، لتكون المرة الأولى -اللهم اجعلها الأخيرة- التي انتقل بها في هذا النوع من السيارات.
في تلك الساعات التي قطع بها سائق سيارة الإسعاف الطريق الذي لم أر منه شيئاً، رجعت لتاريخ علاقتي بهذه الصديقة الجميلة التي أصبحت أقرب لنفسي مني، وكأني ورغما عني أودع الأيام والسنوات التي ترافقنا فيها، لأعدها وأتأكد أنها فاقت العقدين. كنت ألتهم ملامحها التي تأثرت بفعل الحادث واسترجع تفاصيل وجهها الذي أحفظه تماماً، وأرقب حركة شفتيها في تمتمتها بالاستغفار والشهادة وأبدو صامدة جلدة بينما الحقيقة أني كنت أهش من عظامها. خلال ساعات كنت أحفر سنواتنا الطويلة -القصيرة جدا- في تجاويف عقلي وبلا إرادة أيضاً، وأهرب بدموعي من تأملات لأوقات مقبلة لا تشاركني فيها، فجأة وجدت نفسي أنا التي لا تطيق الحزن والدموع والألم، أهرب إليه وأعيشه وأتفكر فيه وأتلمس جدرانه الخشنة الموغلة في السوداوية!
تملكني الألم، لدرجة توقعت أني التي امتلكته ولم أترك لأحد شيئاً منه في الدنيا كلها؛ أخذته معي في تلك السيارة التي تحملني وصديقتي؛ ألم وصلت معه حد الجنون لدرجة أنني كدت للحظة أن أصرخ بها لتتوقف عن تحريك شفتيها وتقوم لتحتضنني وتهدئ من روعي وتخبرني أن كل شيء سيكون على ما يرام كما نفعل دوماً عندما تواجهنا صعاب الحياة. هل يعقل أن يطلب المعافى السند من المصاب؟ كم نبدو صغاراً وأغبياء أمام الألم أمام المرض وأمام الفراق! تأتي هذه الأحداث لتفعل فينا أشياء غريبة، لتُغير من نظرتنا للحياة وللناس ولأنفسنا، أشياء تمضي بعيدة عنا، ولكنها بالتأكيد لا تتركنا كما كنا من قبلها.


als.almenhaly@admedia.ae