بيدين متشققتين من كثرة حمل المطارق، يحاول الحكيم ان يهدم جدران الجهل التي تنتصب امامه كلما مشى خطوة في طريق البحث عن النور. لكنه كلما هدم سورا ارتفعت امامه اسوار اخرى في دائرة لا نهائية تشبه حصار العقل الذي يريد ان يتحرر وينطلق الى ما وراء الافكار الجاهزة، لكن العوائق تجبره على الاصطدام بحواجز الوهم المضللة الى درجة ان الجميع يتوهون في بحرها؛ لأنها غير مرئية، لكن الحكيم، وهو الذي يستلذ بلعبة الكشف، يمتطي هذه الحواجز كانها خيول صغيرة، ويقفز من فوقها، وصولا الى الجدار الاخير الذي لم يهدمه احد، ويظل يطعن فيه، لعل الظلام الذي في العقول ينقشع تحت ضرباته، ولعل نبع النور يتفجر في القلوب ويدرك الناس لا جدوى انهماكهم في ملاحقة الاشياء الزائلة. برجلين حافيتين، يعبر الحكيم حقول الشوك بحثا عن زهرة الخلاص، لكنه لا يصل إليها الا داميا نازفا دمعه ودمه. ممزقة قمصانه، ومجروحة رؤاه. لكنه حين يحملها عاليا في فضاء الكون، تنقشع الظلمة من طريقه، وترفرف فوق رأسه طيور المعرفة فيدرك حقيقة نفسه الضائعة بين الضدين. وبعدها، حين يراجع معنى وجوده، يدرك انه كان يركض في الزمن بحثا عن الخلاص من التعلق بالأشياء، او من الاشياء التي علقت به منذ ولادته صغيرا نقيا، ثم التعاليم والنواهي والواجبات بدأت تتراكم مثل صخرة عملاقة فوق جناحيه، وصار صعبا عليه ان يطير. والاغنية التي سيرددها لاحقا سوف تخلوا من كلمات الندم او الخوف او الرهبة من الموت؛ لأنها ستكون نشيدا متفجرا من قلب يتذوق الحرية لاول مرة. بعينين متورمتين من شدة التحديق في الورقة، يحاول الحكيم ان يفهم لعبة الاسماء والكلمات. هل المعنى موجود في الاشياء من حولنا ام هو محمول في الكلمات التي ننطق بها، ولو اختفى اسم ما هل يموت صاحبه، ولو فقدت البشرية او مسحت كلمة (العذاب) من قواميسها، هل سيتوقف الدمع في عيون الفراق، وهل ستختفي الآهات من حفلات الغدر. كل كلمة تأخذ معناها الحقيقي حين تكون مجردة ووحيدة، لكنها حين توضع في السياق فإن دمها ولونها يتغيران، شمعة الحب البيضاء تنطفئ وتتحول الى رماد في لحظات الخيانة، والصديق الذي كنت تعلمه الرماية بالامس، يصوب سهمه نحو خاصرتك ويرديك غير مبال بانقلابات المعاني ما دامت الحياة تتحكم في مصائرنا. الا ان الحكيم لا يقبل ان تغويه الكلمات عندما توضع خارج نسقها المعتاد، وبدلا من الوهم يذهب الى تسمية الاشياء بمسمياتها الاولى، فتكون (شمعة الحب) وهّاجة في قلبه مهما اعتمت قلوب الخونة، ويظل صديقا وفيا مصافحا حتى لو مدّ له الآخرون خنجر الغدر. والحكمة التي سيكتبها بعد ذلك على الجدران والكهوف ستكون ناصعة الوضوح، براقة مثل قمر الحقيقة حين يشرق فوق صحراء نائمة، فلا هو يكشف عريها، ولا هو يغطيها بالضوء. اليد التي ترتجف قد تشدّ قوس الحكمة، لكنها لا تعرف اين تطلق السهم. akhozam@yahoo.com