المشهد يكاد يتكرر في أغلب شوارع العواصم العربية، وتحديداً تلك التي طالتها حرائق الثورة: الصراخ والاعتراض على أوضاعهم بعد الثورة، كثيرون منهم لا يعترضون على الثورة كمنطق مضاد للفساد والفاسدين، لكن كثيرين منهم اليوم عادوا مجدداً لرفع صور أولئك الذين قالوا عنهم إنهم فاسدون، فما سر هذا الانقلاب الذهني في أفكار الناس؟
إن البسطاء الذين انتسبوا للثورات أو تبعوها كانوا يمنون النفس بمنافع مباشرة وواضحة، هؤلاء الناس ليسوا كتاباً ولا فلاسفة ولا شعراء بوهيميون، هؤلاء عمال ومزارعون وسائقو سيارات أجرة وموظفون عاديون، إنهم آباء وأمهات وطلاب مدارس في معظمهم، وهم في معظمهم فقراء، بل وكثير منهم بؤساء ومعدمون، هؤلاء لم يكونوا يحلمون بصناديق اقتراع ولجان تأسيسية وممثلين يملؤون المنابر بالخطب التي لا تغني ولا تسمن، هؤلاء ليسوا أنانيين أيضا أو بلهاء لا يفهمون في السياسة، لكنهم حينما تجرؤوا على الصراخ في وجوه الطغاة، وحين خرجوا للشوارع كانوا قد قرروا الانتحار علانية لأجل لقمة عيشهم وعيش أبنائهم وكرامتهم وأمنهم وأمانهم وعملهم وشرفهم وحقوقهم المبدئية، التي لا علاقة لها بالترف والنعيم، بقدر ما لها علاقة مباشرة بالحياة الإنسانية المقبولة !
هؤلاء لم يجدوا شيئا مما ثاروا وخرجوا لأجله، بل وجدوا خلاف ذلك، تحولت الأوطان إلى كتف شاة كل يضع خطته للوصول إليها، والوطن ليس كتف شاة وليس كعكة وليس مغارة علي بابا، لأنه حين يصير كذلك يتحول الجميع إلى جوقة عميان، لا يرون سوى مصالحهم وثأراتهم الشخصية ومنافعهم وشهواتهم، فينسون التغيير والإصلاح والثورة وكل الشعر والدموع وخفقات القلوب والدماء التي أريقت على جوانب أحداث ويوميات الثورات، لذلك يصير عند الناس ما يشبه ردة الفعل الموازية لقوة الفعل (الثورة) ولكنها مضادة في الاتجاه (الثورة على الثورة) للأسف، هكذا تسرق الثورات وتفشل وتنتهي !!
اللهم لا اعتراض على التغيير، فالتغيير سنة كونية وهو الناموس الوحيد الأكثر ثباتاً، فلا شيء يبقى في مكانه، فحتى النظرة لا تستقر في العين لثانية، والليل ينفصل عن النهار، والجنين لا يثبت في رحم أمه، والدم ليس هو الذي يتدفق في عروقنا منذ ثوان، والشمس لا تستقر في مكانها، والقمر لا يبقى بدراً، والطفل يغادر براءته سريعاً، والشاب يودع فورة عنفوانه بعد حين، تلك نواميس الخلق والطبيعة، لا شيء ثابت:
إني رأيت ركـود الـماء يفســده
إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
التغيير إذن أحد معادلات الكون الكبرى، التي لا يمكننا تجاوزها، أو الإعراض عن بديهياتها، وسواء قبلنا به أو رفضناه فهو ماضٍ في طريقه حتى النهاية. لا منطق للتغيير لأنه هو بحد ذاته المنطق والمبرر الوحيد للبقاء واحتمال الحياة والظروف، فلولا اليقين بوجود غد آخر أجمل أو مختلف لما أمكن لكثيرين احتمال قسوة اليوم، لكن رياح التغيير لا تأتي دوما بما تشتهي سفننا، وذلك طبيعي أيضا، فكل تفصيل من تفاصيل الحياة يتحرك وفق قانونه الخاص، لكننا نملك ضمن خيار الاختيار باعتبارنا مخيرين ومحاسبين أن نوجه التغيير ونتحكم فيه ونعقلنه، بل ونردعه حين ينطلق ليتحرك بلا قانون وبلا هدف، حين يفقد منطقه وبوصلته، أو حين يتحكم به بشر امتطوا أو لبسوا عباءته لأجل أهدافهم الخاصة، وأن الجموع التي صنعت الثورات العظيمة بإمكانها إعادتها للطريق الصحيح وبالقوة إن أرادت !


ayya-222@hotmail.com