في زمن الجدران الحاجزة والمناطق العازلة، تنهض في أبوظبي فكرة الجسر. فكرة تستلهم طموحها من واقع حال المدينة الحاضنة لأشواق وتطلعات الناس، من سكنتها أو الراغبين بسكناها. أصبحت أبوظبي، خلال السنوات الماضية، مختبرا حقيقيا لتفاعل الثقافات والحضارات. تستقطب المبدعين في أجناس الفنون من بحر الصين العظيم، إلى البحر الكاريبي النائي، وما بينهما. في أبوظبي، بإمكانك أن تقرأ بلغتك، أو بما تجيده من اللغات، لشاعر من كوريا، وآخر من اليابان، وروائي من ماليزيا، وأن تستمع لمحاضرة من مفكر هندي، أو فارسي، أو تركي. وفي أبوظبي أيضاً، ستلتقي برسام من ساحل العاج، وسينمائي من جنوب أفريقيا. ستستمع فيها إلى موسيقي من أميركا اللاتينية، وتتجاذب أطراف الحديث مع نصف ثائر، أو بقايا ثائر من البيرو. فيها ستضعك الصدفة أمام كاتب روسي، وآخر كازاخستاني، يبحثان ماضيهما المشترك ومستقبلهما المفترق على طاولتك. وفي أبوظبي، أيضاً، ستجد لك مكانا بسهولة، على مائدة الثقافة الأوروبية من زمن الفلاسفة الهلينيين إلى زمن برنار هنري ليفي! صورة أبوظبي هذه التي تتسع لأيامها على مدار العام، تتكثف في مواسمها الثقافية المتنوعة، وخصوصا معرضها الدولي للكتاب، الذي انفضّت دورته الثانية والعشرون قبل أيام. في هذا المعرض حضرت مئات آلاف العناوين، ومعها حضرت الأقلام، ومعها حضرت الأفكار، ومعها حضرت مشاريع التنمية الثقافية، من النشر إلى التوزيع إلى الترجمة. هنا تتجاوز فكرة الجسر منطلقها الذهني، لكي تتخذ شكل البنيان ذي الأساسات الراسخة والأعمدة الشاهقة. لكن، أين العرب في هذا العرس الظبياني؟ هذا السؤال بات تقليديا في كل محفل.. من الاقتصاد، إلى السياسة، إلى الثقافة. والإجابة عنها باتت صيغة جاهزة، يلفها الابتذال حينا أو الاعتذار أحيانا. لكن عندما يكون الحدث في أبوظبي، فإن حضور العرب لا بد أن يكون غير تقليدي. كان المثقفون العرب، في أجنحة المعرض وفي فعالياته، هم الحدث، بما أورثهم إياه الحدث الأكبر في ميادينهم ودواوينهم منذ أكثر من عام. واللافت، إن الحضور العربي في المعرض هذا العام، قد تجاوز مفرداته التقليدية. لم يقتصر الأمر على خليجيين ومصريين ولبنانيين وبعض المغاربة. كان مهما أن تجد في المعرض حضورا للسودان، وموريتانيا، وليبيا. وجوه وأسماء عربية، غابت كثيرا خلف أستار العزلة، وأفرجت عن نفسها وعن مكنونها الثقافي في أبوظبي. في معرض أبوظبي للكتاب، أخذتنا الفعاليات والندوات والأمسيات، إلى أبعد مما احتوته متون الكتب، وصفحاتها. أفرج المؤلفون عن هواجسهم، ما قبل الكتابة وما بعدها. تناقش المنتدون في الإضمارات والإفصاحات. اختلف النقّاد حول البنى الفنية والسياقية للأعمال الإبداعية. والنتيجة كانت ربحا صافيا للجميع. للمؤلف والقارئ. للناشر والناقد. للكتاب خصوصا. لمعرض الكتاب عموما. إنها فكرة الجسر، التي أزيح الستار عن بنيانها في “مؤتمر أبوظبي الدولي للترجمة”، الذي أداره باقتدار مدير مشروع “كلمة” للترجمة الدكتور علي بن تميم. والخلاصات التي توصل إليها المؤتمر، تمثل الوسيلة العملية الوحيدة لاستعادة الحيوية إلى حركة الترجمة، من وإلى العربية، لتحقيق ما أسماه بن تميم عبور الثقافات، أو العبور نحو الثقافات. وفي كل حال، فإن ما يقوم به مشروع “كلمة” على هذا الصعيد، ينجز نصف الطريق نحو الهدف المنشود. هذا المختبر الثقافي، الذي احتضنته وتحتضنه على الدوام أبوظبي يستمد حيويته من المدينة.. من ماضيها وحاضرها.. ومنهما ينبع معيار آخر لفكرة الجسر، عندما تناط به مهمة العبور إلى المستقبل. adelk58@hotmail.com