صغاراً كنا ، ظل العريش أكبر من ظلالنا، الشمس حارقة تمتص الظلال في الظهيرة. ونحن صغاراً كنا، نحوم حول الأم، وهي توقد التنور لتعد طعام الغداء، وتدور الرغيف بين كفيها، فتأمرنا أن نلعب في ظل العريش الذي كان على مرمى من بصرها. كي نبقى في ظل رقابتها الرحيمة. في الظل نجلس، على الرمل الناعم الذي برده الظل، نكوم الرمل في أشكال هرمية، والرمل لنعومته وجفافه ينهار، وتنبعج قمته على شكل سفح صغير. من دون يأس أو تعب نعاود تشكيله وتدوير قمته ثم نتلفت حولنا لنبحث عن أشياء نضعها على سفحه الصغير: علب فارغة، شظايا زجاجات مكسورة، أصداف أو قواقع جمعناها من شاطئ البحر نتخذ منها حيناً قدوراً وملاعق تشبه أوعية البيت، أحجار صغيرة تختبئ في كثافة الرمل، تعجز مكنسة من إلقائها مع القمامة. أشياء كثيرة، هي أثاث لعبنا الطفولي، نصنع منها عوالمنا التي تحاكي عوالم الكبار وأدواتهم. كنا نضع شيئاً من هذا الخليط على تلال الرمل الصغيرة من دون أن ندرك أننا كنا نصنع فناً سيسمونه الكبار فيما بعد (أعمالاً فراغية)! وكنا نتلقى الصفع أو السباب لأننا قوضنا هندسة البيت المنبسطة، وكانت المكنسة تعاود تسوية التلال مع التراب، وتجمع الأشياء مع القمامة وسط احتجاجنا وبكائنا. ??? على شاطئ البحر القريب كنا نهندس القلاع والقصور والأسوار، وحين يأتي الموج في غفلة منا ويجرف ما صنعناه، تمتد أكفنا الصغيرة مأخوذة بالدهشة والغضب لتقبض على الرمل وتحمي البيت والسور من سطوة الموج الذي يهدم ما بنيناه، تاركاً لنا في انحساره أكواماً صغيرة من الرمل تتشكل في نتوءات عشوائية تحت أكفنا، وكانت أشعة الشمس تعكس ظلال النتوءات المتفاوتة في أحجامها، وتلتمع نثاراً من ذهب وفضة على سطوحها. لحظتها ننبطح على الرمل نرقب الموج، وهو يغمر الشاطئ، ويعود منحسراً، راسماً خطوطاً وتعاريج كالجداول، تهرول عائدة إلى حضنها الأول. كانت بهجتنا تكمن في لذة التحدي، ونحن نقبض على الرمل، وهو ينسرب من بين أصابعنا تحت سطوة الماء أو يتجمع تحت قبضاتنا الصغيرة، تاركا آثار أصابعنا بين انحناءات الرمل. ولم نكن ندرك حينها أننا نبدع فناً! هل كنا في طفولتنا الجميلة نرسم إلا طفولتنا الجميلة؟ ومثلما تمحو السنون بهاء الطفولة، يمحو الموج آثارنا على الرمال! ??? الإنسان في نشوئه الأول كان كائناً أرضياً بحتاً. كانت قامته طويلة كجذوع الأشجار. وكانت ذراعاه تصلان إلى ما تحت الركبة. كان ملتصقاً بالأرض، بالطين. وعندما مسته النار بسحرها واستشعر دفئها على جلده، وذاق لذتها في فمه، امتدت يده إلى الطين يعجنه، يكوره، يعيد خلقه في أدوات تحفظ له لذة النار، واستمرار الوجود، وخلود الذات. صنع منه كتاباً وأوعية وبيتاً. كانت يداه طويلتين كالأغصان، وخالقتين كالغموض. ولم تنكمشا وتقصرا إلا عندما أصبح معلقاً بين السماء والأرض. إذ كلما ارتفعت يداه إلى السماء قصرت عن البلوغ. وكلما ابتعدت عن الطين ضاعت في السراب. كان الإنسان الأول يعجن الطين بالماء، بأوراق النباتات الجافة، بصمغ الأشجار، بالتأني، بالصبر، بالجهد الدؤوب، ليصنع جدران بيته. ولم يكن يسمي ذلك الفعل العظيم فناً. فقد كان ولا يزال مبدعاً قادراً في كل زمان ومكان على صنع الحياة بروحه المتقدة، وخياله الخصب، وأصابعه العشر! hamdahkhamis@yahoo.com