لا يبارحني ذلك الشعور بالحب والحنان والثقة والاحترام الذي زرعته تلك اللحظات التي ليس من المبالغة وصفها بالتاريخية التي أرست وثبتت دعامة بر الوالدين بأبنائهم، كما برّ الأبناء بآبائهم، أيام كان والدي رحمه الله يستشير أبناءه، صغيراً وكبيراً، ولا أنسى ما حييت يوم اصطحبني معه ليأخذ رأيي في شراء بيت للعائلة، ولم أبلغ بعد السادسة عشرة من عمري، ولا أنسى أيضاً الدهشة التي تملّكت صاحب البيت الذي يريد بيع بيته وهو يجيل النظر في وجه والدي وهو يقول في نفسه: بالتأكيد هذا الرجل مجنون ..إنه يستشير صبياً لا يعرف كوعه من بوعه في شراء بيت ودفع كدّ وتعب سنين طويلة! لم أدرك أيضاً يومها الحكمة والمغزى من استشارة الأب لابنه الذي لا يعرف شيئاً عن الموضوع، ولكني أحسست يومها بشعور لا يوصف، شعرت بأنني كبرت وصرت رجلاً، وأحسست بالفخر الكبير، وأعطاني ذلك ثقة بالنفس لا حدود لها، ما زلت أنهلُ من معينها إلى اليوم، ولم أشعر بالبرد بعد تلك الرَبَتَات الحانية التي كان يعزف بها على كتفي وظهري، فتشحنني بالحب والدفء وطاقة لا حدود لها. من الطبيعي أن يستشير الإنسان الآخرين في أمور ليست لديه الخبرة فيها، ومن الطبيعي أن يكون لأصحاب المسؤوليات الكبيرة مستشارون يستنار ويستأنس بآرائهم ورؤيتهم، فكما يقال المستشار خفيف يمكن أن يعطي رأياً صحيحاً، لأنه يرى من زوايا مختلفة، وغير واقع تحت ضغط، ففي الغالب تكون الصورة لديه أوضح، فيمكنه اتخاذ وجهة نظر أدق وأشمل، ومن علامات نجاح المسؤولين والمتفوقين والمبدعين، اختيار المستشارين المناسبين، فهم من أسباب النجاح، وكثيراً ما تفشل مشروعات وقضايا بسبب سوء الاستشارة، وقد يفشل كثيرون ممن عرفوا بنجاحهم وقدرتهم على توجيه دفة أعمالهم بسبب عدم استشارتهم ذوي الخبرة. لكن الأمر غير الطبيعي أن يستشيرك من هم أكثر منك خبرة، وأكبر عمراً، فيستشير الأب الذي قضى حياته في مجال التجارة ابنه في مشروع ما، والأب بالتأكيد هنا أكثر خبرة واطلاعاً، وقد أدركت فيما بعد مغزى استشارة الكبار من آبائنا أبناءهم في أمور ومسائل كبيرة وصغيرة، والحكمة من تلك الاستشارة، فهي لرفع معنويات الأبناء وتأليف قلوبهم، فيزيد حبهم لآبائهم، وأسرهم. من الضروري أن نستشير من نحبهم أولاً، من أهل آباء وأبناء، وأمهات وأخوات، وزوجات وأزواج، وبقية الأقارب، وأصدقاء وأصحاب، فذلك يزرع الحب والثقة والاحترام. الشافعي: تعلم فليسَ المرءُ يولدُ عالمــاً وَلَيْسَ أخو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِـلُ وإنَّ كَبِير الْقَوْمِ لاَ علْمَ عِنـــْدَهُ صَغيرٌ إذا الْتَفَّتْ عَلَيهِ الْجَحَافِلُ وإنَّ صَغيرَ القَومِ إنْ كانَ عَالِماً كَبيرٌ إذَا رُدَّتْ إليهِ المحَافـــــِلُ Esmaiel.Hasan@admedia.ae