لا أتذكر أنني دخلت باريس مرة دون أن يطنّ صوت إديث بياف، (Edith Piaf) في ذاكرتي أو أنني ترافقت مع قطرات المطر في ليل تلك المدينة، ولم أتذكر صوتها ذا الحشرجة التبغية المحببة، ولكنتها التي تميل لأهل الجنوب، لا أذكر أن دخلت مقهى على قارعة الطريق، المعبأ بدخان العمال في استراحتهم القصيرة، وضحكات السياح ودهشتهم التي لا تنتهي، ورائحة القهوة إلا وتذكرت صوتها من خلال أسطوانة قديمة، لم أمر يوماً في أزقة الحي اللاتيني، ولم أتلفت ورائي، شاعراً أن متشردة صوتها جميلاً تتبعني، لم أمر ولا أتوقف ولو قليلاً حين أجد أحداً من “كلوشار” باريس يتوسد الأرض، وقنينته شبه الفارغة تقبع بجنبه، وكلب هزيل لم يمل من صاحبه ولا حرية الأرصفة، ولم أتذكر تلك الشقية التي كانت تصحو في الشارع وتغني في الشارع وتنام في الشارع، ويقال إنها ولدت في الشارع في ضاحية “بيل فيل شارع 72”، غير أن شهادة ميلادها تثبت أنها ولدت في مستشفى “تينون Tenon”!
ولادتها كانت عام 1915 في باريس في تلك الضاحية، حيث يتمركز المهاجرون، اشتهرت باسم لموم “La Môme” أي الطفلة الصغيرة، اسمها الحقيقي إديت جيوفنا جازون، سميت إديث تيمناً بالممرضة البريطانية إديث كافيل (Edith Covell) التي أعدمها الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى لقيامها بمساعدة ضباط فرنسيين على الفرار من المعتقل، أما بياف فهو تسمية لطائر الدوري، أمها ذات أصول جزائرية، ووالدها لويس ألفونس جازون (1881-1944)، بهلوان يستعرض في الشوارع، وممثل مسرحي وهو من أصول إيطالية، ربتها جدتها من جهة الأم عائشة سيد بن محمد.
من أشهر أغانيها: “الحياة الوردية - La vie en Rose” “لا لست نادمة على شيء - Non je ne regrette rien”، “نشيد الحب - Hymne l’amour” “أنت في كل مكان - Partout Tu Es”، وهي أغنية لحبيبها “مارسيل” بعد وفاته “الحشد - Foule La “ “سيدي- Mi Lord”.
صباح يوم 11 أكتوبر 1963، توفيت اديث بياف بسبب نزيف داخلي، عن عمر يناهز السابعة والأربعين، وفي المساء من اليوم نفسه، توفي في بيته بضاحية “ميلي ـ لافوريه” في باريس صديقها جان كوكتو، وهو في الرابعة والسبعين من عمره بعد أن بلغه خبر وفاتها، فكتب كلماته الأخيرة لطفلته المجيدة الخجولة، كما يحب أن يناديها:” الآن.. يمكن القول إن السفينة غرقت!”.
بياف بعد طول الغياب، لا يمكن أن تكون باريس جميلة إلا بك، نراك في ذاكرتها: طعم قهوتها، لمعة أرصفتها إذا ما جسها المطر، عطر (شانيل 5)، وروائحها، الحياة الوردية فيها، وفي أزقتها المخمورة بالفرح والمطر!


amood8@yahoo.com