درجت الثقافة العربية على اعتبار الشعر «منطقة محايدة» لا تسري عليها القوانين الصارمة، سواء كانت ذات طابع لغوي أو أخلاقي، بل تتمتع بحرية نسبية لافتة، حيث يباح للشاعر ما لا يباح لغيره من ارتكاب الضرورات والشذوذ اللغوي والنحوي، ويتم التسامح معه بإعفائه من مكوس الأعراف والتقاليد في خطابه الغزلي خصوصاً، وكأنه يؤدي وحده وظيفة الفن في فلسفته العميقة.. ولنتابع موشحة ابن خاتمة التي تغنى فيها بمفاتن الطبيعة ثم أخذ يتغزل في الساقي، دون أن نعرف على وجه التحديد طبيعة جنسه، وكأنه يتأرجح بين النوعين دون فرق قائلاً: يديرها تياه/ كالصبح مرآهُ إن أخطأت كفاه/ شقتك عيناه لله ما أبهاه/ وما أحيلاه غصن على ربوة/ ألحاظ يعفور مجوهر الأقراط/ طلق الأسارير فسيان عنده أن يكون هذا التياه المدلل بجماله صبياً أم فتاة، فهو الذي يدير الشراب مشرقاً كالصبح، ساحر الطرف حتى إذا أخطأتك كفاه فلم تصب لك سقتك عيناه.. وما أجمل صيغة التصغير في «أحيلاه» لكن اللافت أنه يخضع للنموذج الجمالي المشهور عن المرأة في المخيال العربي، حيث تكون رشيقة القوام في نصفها الأعلى كالغصن المياس، ثقيلة الأرداف في جزئها الأسفل كأنها ربوة أو كثيب من الرمل. وكان العقاد يبرر استحسان ذلك بأنه مراعاة لمناطق الخصوبة واكتمال الأنوثة، ثم يستمر الشاعر في وصف هذا الظبي بأنه «يعفور» أي تخالط بياضه حمرة داكنة كأنها العفار وتتدلى من أذنه الأقراط، وتنطلق أسارير وجهه بالابتسامة المشرقة: آه ومن يُبلى/ حِرٍ بأن يبدى لشد ما حلّا/ بالصب من وجد يا عاذلي مهلا/ فالعذل لا يجدى ما أبعد السلوة/ عن قلب مذعور تُيّم في فسطاط/ ببدر ديجور ومن يبتلي بالصبابة والوجد فهو جدير بأن يبدي ذلك دون مواربة، وحينئذ لا يصبح للعذل معنى ولا للوم جدوى، فمن اهتاج قلبه كأنه مذعور، وهام وجدانه واشتط عشقه للبدر المنير في قلب الظلام المخيم كالفسطاط كانت السلوى بعيدة نائية عنه. رفقا منى قلبي/ بقلب هيمانك قد زاد في كربى/ فتور أجفانك الله في صب/ بنيل إحسانك يا صاحب السطوة/ وارفق بمهجور أضغطتني اضغاط/ يا فتنة الحور تميل كفة المقطع الأخير إلى الجانب الأنثوي في المحبوب، فمنى القلب اسمه، وفتور الأجفان من علاماته، والصبابة داعية إلى طلب إحسانه بالدعاء إلى الله، حيث يصبح المعشوق هو صاحب السطوة والأمر والنهي، يطلب منه الرفق، ويرجى أن يخفف وطأته وضغطه الشديد على عاشقه بالهجر والنكران. وإذا كانت الموشحة في جملتها قد بدأت بنغمة الحلول في الطبيعة الفاتنة فلا غرو أن تختتم بهذا المزج في المحبوب بين صفات الذكر والأنثى بما في كليهما من فتنة وجمال لكل من الطرفين، دون أن يكون في هذا التعميم ما يؤخذ على الشاعر بمقاييس الضمير الثقافي لهذا العصر الوسيط.