وصلت طوكيو منهكا بسبب الرحلة الطويلة قادما من أستراليا، بعد أن اضطررت لأسباب لوجستية إجبارية إلى اختصار إقامتي في تلك القارة المعزولة في قاع العالم، وبالتالي تحتم علي تغيير مسار رحلتي فكان يفترض أن أعبر أستراليا إلى بيرث في أقصى غرب القارة حيث سأنتقل إلى جزر سليمان ومنها إلى غينيا الجديدة. غير أن خططي باءت بالفشل لظروف غير مفهومة، وها أنا أجد نفسي في طوكيو، هذه المدينة الاستثنائية، محطة رائعة أخرى في رحلتي الطويلة. خرجت من مطار ناريتا وينج متثاقلا أشعر ببقايا نعاس، خصوصا أنني لم أحظ بشيء من النوم، فمسألة النوم في الطائرة مزعجة أكثر مما هي مريحة، غير أنني شعرت بالانتعاش ما أن خرجت من بوابة المطار في هذا الصباح الياباني الذي لا يزال يتثاءب. ركبت قطار الأنفاق حتى وسط المدينة التي أحاول إعادة استكشافها بعد أكثر من عشر سنوات على زيارتي الأولى لها. لم يتغير شيء كثيرا طوال تلك السنين، فالتغيير والنمو نراه فقط في بلادنا التي تسابق الأمم على القمم. المدينة منظمة نظيفة وجميلة، أنها من تلك المدن الأنيقة بصخب والتي قد ترغب في العودة إليها مرارا وتكرارا بغض النظر عن تجهم طقسها الغائم، الذي لا يحول دون حركة الناس المتأنقين وهم يعبرون الشوارع بكثافة ونظام مفعمين بروح العمل والنشاط، ترى ذلك في حركة سيرهم ووجوههم التي تعلوها الابتسامة والهمة، يبدو أن كل من في المدينة متأنق بما في ذلك عامل النظافة الذي يرتدي زيا يشمل ربطة عنق، الفتيات وحدهن لا يرتدين زيا رسميا، وتراهن يتمخترن بين أفواج الموظفين الذاهبين إلى أعمالهم سيرا على الأقدام. الفتيات جميلات يذكرنك بشخصيات الرسوم المتحركة بقصات شعورهن القصيرة والملونة، وهو ما دفعني للجوء إلى مقهى لتمضية بقية الصباح للتمكن من مراقبة تلك الفتيات اللاتي لا يتوقفن عن العبور وكأنه شريط سينمائي يتكرر، فالأشكال تتشابه ويصعب أن تجد الفرق غير أنني وجدتها لعبة مسلية لمحاولة اكتشاف الفروقات السبعة. وأمضيت بقية المساء أبحث عن المغامرة متوغلا في الشوارع الخلفية للمدينة، فخلف هذه المظاهر الأنيقة لابد أن تكمن قصص وحكايات وهو ما يشكل نسيجا ثقافيا ومعرفيا عن المدينة. إنني رجل سلام ولا أملك شيئا يستحق الموت من أجله ثم إن الجريمة هنا منظمة وليست عشوائية فلا خوف طالما لا تتدخل فيما لا يعنيك. غير أن أمثالي من الفضوليين لا يمكنهم رؤية فتاة تتعرض للتحرش ولا يتدخلون من باب الشهامة والنخوة العربية، والله ستر لأن المتحرشين مجرد صبية مراهقين تمكنت من إنقاذ الفتاة من عبثهم فشعرت بالامتنان خصوصا بعد أن عرضت عليها مرافقتها لمنزلها في نهاية الشارع، في الطريق تحدثنا بإنجليزية كسيحة غير أنها كانت كافية لأفهم أنها ترغب في أن أتحدث مع أمها عما حدث وعن البطولة والشهامة "النادرة". rahaluae@gmail.com