لغطٌ، لغطٌ، لغط.. يفتك بي.. وقع حوافر مروعة تهدر فوق جسدي وأعصابي وتجرحني.. شفرات الضجيج تجرّحُ ثواني، ساعاتي، ايامي، أعوامي.. صخب يستلني من ثغر زهرة، من تكسر موجة، من عناق فكرة. قرقعة الألسن في الحناجر أبداً لا تنتهي منذ تكويني الأول. كان علي، كما على جميع الأطفال، حين يولدون في التوِّ، ان أصرخ. همهمتُ.. لكن رعود الزغاريد اخترقت لساني ورئتي، وحفرتني في ارتجاج المباغتة وألقمتني الصمتَ. كان أكبر من حلقي فغصصت به ورحت أرضعه سنواتي المقبلة حتى الأسى.. الضجيج يكبر ويبددني، يبعثرني، يلف بي في دوامة لا يوقفها الزمن ولا المصائب.. أذرع طاحونة، يبعثرني في اتجاهات البيت والمدن والقارات، هاربة أبدا ولائذة بي! في الصخب الوحشي نمت مخالب الشوق للسكينة والصمت والهدوء.. في اللغط الأحمق نمت زاوية صغيرة مثل رغيف جائع في مكان أجهل مكانه وأستعجل زمنه فلا يوافيني، وأستشرف شكله فلا يتشكل إلا في أعماق الروح المنفلتة أبدا من إسار اللغط والضجيج وقرقعة الألسن والتيه والتبعثر والذهول.. طفلة شريدة تصفعني الصحارى، وتحدني الصحارى، وتنسجني الصحارى، وتنثرني قطرات تغوص عميقا ثم تتحول إلى صبارة صابرة! آآآه... سنوات.. سنوات وسياط الألسن واللغط والضجيج تركض في السنين وتجلدني وتنثر على سقوفي ملح الصبر.. زعيق مهول يرتج في أذني ولا يرتد.. ينشر المسامير في ذرات أعصابي ويرجني.. يهتك بسريرتي وسرائري ويلفني بأشلائي في متاه أبدي. اين اختبئ، أين أرسم خيمتي أو غيمتي، أين أحفر مغارتي أو زاويتي القصية؟ تروس الضجيج تطوّحُ بي. مريعة تحوم كالعواصف، وأنا قطعة خشب تستغيث بشاطئ أو غصن. سنوات نما على حواشيها الانتظار فعرش بالصحارى.. عشر وعشرون وتوق واحد بسيط مثل قطرة ماء.. وبسيط مثل عشبة صيف، وبسيط مثل شعاع ملقى على شارع، وبسيط مثل رغيف ساخن.. وبسيط.. توق واحد وأنا أحلم بخيمة أو غيمة أو زاوية قصية، لا تروس الضجيج تمزقني فيها، ولا قرقعة الألسن المروعة تبعثرني في الذهول. قصية لا أسمع فيها إلا ما يهمس الشعر وما يبتغي الوجد وما يوشوش الموج والغيم والشجر.. وإذا ما حط نورس الفكرة على قلاع روحي ساررته واعتنقنا طويلا حتى نصير موجة من الشعر تنسرح على افق الحياة والشفاه.. توق واحد وبسيط ايتها الحياة البهية التي منحتني سرك البسيط. ما أعجبك! أيمكن ان تكوني سخية العطاء وبخيلة التحقق الى حد هذا الحد؟! أيمكن ألا تمنحيني خيمة أو غيمة أو زاوية قصية؟! ايتها السنوات ها هي حوافر الزعيق تختم روحي بهبائها.. ها جسدي وطبلتاي وأطرافي ترتعش في رجة العويل واللغط والضجيج.. وها انني معلقة في فزع ابدي رهيب! وحوش هذه الأصوات.. هذه الزلازل التي ترجُّ ارضي.. وحوش جائعة إلى اللغط والعويل والضجيج.. وحوش بشرية.. يا للهول! وحوش بشرية تنهشني في محبة عنيفة لها مخالب وأنياب وأجراس نحاسية بحجم الكون! ??? حين ولدت هناك، في اللحظة التي ولدت فيها كان جرس يضرب بعنف حتى رقت طبلتاي حد أن نسمة يمكن أن تخترقها فيما بعد. وبعد سنوات كانت الأجراس تزداد حجما وارتفاعا وصخبا، فرحت ألصق أذني بالأرض حتى أتحد معها لعلها تنشق وتضمني في صمتها وترأف بمشقتي..! hamdahkhamis@yahoo.com