كانت الزيارة الأولى لبغداد عام 1977، حيث كان الصبي مشدوهاً يحاول أن يلملم شتات الذاكرة ويستجلب الصور التي استقرت لبغداد فيها، كانت بغداد يومها في عافية ومسرة بعض الشيء، والثانية كانت صيف 79، حيث كان كل شيء يسير برتابة، ثم كان ذلك الانقلاب الذي أنّت له الشوارع والأهوار وسواد نخيل العراق، والثالثة والرابعة كانتا بعد ذلك، وعلى فترات، يفصل بينهما دائماً الشوق والحنين لتلك المدينة التي تشعر أنها نحتت من أضلعك، لكن بغداد كانت حينها مثل التي تجلس على رماد حريق جسد ولدها، كانت كالعجوز في سوق الشورجة التي تبكي عَمَاها وانقطاع نسلها وانتهاء صبرها، والخامسة كانت ستكون يوم 8/8/1990، آتياً لها من يوغوسلافيا، ولو كانت لكنت أول الهالكين، وثامن المفقودين، أو أحد المسجونين، وليكن يحمل الرقم 35019 - ن، وقبل آخر سبعة من الناجين، وأمل الهاربين الخائفين، وآخر العائدين. ولأن بغداد مدينة الحكايات والسرديات المسائية التي تحكيها الجدات، ظلت المدينة عالقة في الرأس، كمدينة جميلة للأطفال ولقصصهم، كانت الصورة القديمة لمدينة ذهبية يسكنها علي بابا وكنوزه، تجري فيها أنهار من لبن وعسل، وثمة شجرة عظيمة هبطت من السماء قبل آلاف السنين لتظلل الإنسان، ويقدر أن يهزّ جذعها ليتساقط عليه من رطبها الجنيّ، كانت المدينة مختلطة ومكتظة في رأس الصبي، بأسواقها العامرة وقصورها المشيدة، وكثرة الصناع والبنّائين المهرة، أسواق الورّاقين وكتبهم المدوّنة، انسيابية الحرف العربي وديوانيته، تكسرّه الكوفي، وتلك المتخطرات بين الرصافة والجسر، يهزّهن الشعر وقامات الفرسان العائدين من الحرب وزهو الانتصارات، كانت مدينة تعيش ليلها كألف ليلة وليلة، المعازف والمزاهر ورائحة الإناث القادمات من جهات العالم، يرقصّن الدف، ويشعّن في بهو القصور شيئاً من ندى الياسمين والصوت الملائكي وتلك الرّجة التي تحدثها الأنثى. ?الصورة الثانية لبغداد حين كبر الصبي، كانت بغداد فيها مدينة ضجرة من يومها العادي، يتعامل في رأسها فكر وفلسفات الدنيا ومذاهبها، في كل زاوية منها خرج خارجي، أو انزوى باطني، أو امتشق سيفه قرمطي، أو بات على التسبيح وعلى الطوى شيخ صوفي، انقشعت صورة المدينة الطفولية، لتحل مكانها صورة المدينة التي احتوت معارف العالم، وهي اليوم توزع مكنونات الذات، وكل ما شربته من حضارات غائبة وحاضرة، يعيش فيها الحجاج الذي كان سيفه يهطل من الدم، ويعيش فيها زين العابدين! الصورة الثالثة لبغداد كانت عام 2011 ، شيء من دخان، وشيء من ابتلاء، وشيء من شماتة التاريخ، وشيء كثير من أذى الجيران، أحقاد، وعفن الطائفية، وسواتر إسمنتية، ونخيل شائخات اشتعل الرأس منها رماداً، أين بغدادي والمطر؟ أين الليل والصدق والشعراء؟ أين المسرة في تلك اللهجة الرطبة؟ أين من كانوا؟ حينها أبصرت بغداد، وابيضّت عيناي! ناصر الظاهري | amood8@yahoo.com