لم يكن ولع الأندلسيين بمظاهر الطبيعة مجرد اهتمام بموضوع شعري محبب، بل كان تعبيراً عن حالة إنسانية فريدة في العصور الوسطى، يتوحد فيها البشر مع محيطهم. وكان تعبير الوشاح البارع ابن خاتمة الأنصاري عارماً عن هذا الولع المضني. ولأنه يدرك بحسه المرهف أنه بصدد حالة خاصة كان يقدم لمنظومته بما يهيئ المتلقي لها من وضع يصح على الوجه المباشر كما يصح في إشارته عند التأويل الرمزي فيقول: قم هاتها قهوة/ كدمع مهجور قد أفرطت إفراط/ في اللطف والنور ولا أحسب أن شاعراً شرقياً ممن أمعنوا في معاقرة قصائد الخمريات قد خطر له أن يصفها بمثل هذا الوصف الحار اللاذع، فهي في إحساسه تكوى مثل دمع العاشق المهجور المغلوب على أمره، مع أنها قد بالغت وأفرطت في خواصها الشهيرة من اللطافة والنورانية الصافية،وقد تبدو سخونة الدمع هنا ناشزة، لكن الواقع أنها قرينة الوجد المستثار عندما يخف ضغط الوعي وينفجر مكنون الشعور. فإذا تهيأ المخاطب لحالة السكر الشعري أدخله الشاعر معه في رحاب الطبيعة المثيرة: هذى الربا تختال/ في حُلل الزهر قد سحبت أذيال/ برودها الخضر ورقت الآصال/ لعبرة القطر فافترَّ عن حُوَّة/ ثغر الأزاهير ونمّ عن أخلاط/ مسكٍ وكافور فيبثَّ المشاعر في الطبيعة، إذ ليس يكفيه أن تكون جميلة في ذاتها،بل لا بد من أن تزهو وتختال في حللها الزاهرة، وتسحب أذيال برودها الخضراء، وحيئذ يحلو للآصال أن ترق وتشف لرذاذ المطر الذي ينسكب مثل الدمعة الحزينة، هذا النغم الشجي الذي لا يفارق لحظات الوجد والمتعة هل كان يخفي في أعماق الوجدان الأندلسي إحساساً بقرب الفقد وفجيعة الضياع وهي تتمثل في الطوبوغرافيا الأندلسية بتساقط المدن بعد أن اكتمل عقدها؟ ومع ذلك فإن هذه الربا التي يفترّ ثغرها بمثل ما نجد في فم الحسناء من حُرّة داكنة اللون، فيشف عن أخلاط قوية عبقة من المسك والكافور اللذين يمثلان أعتى ما تهبه الطبيعة من توقد الإحساس. على أن الشاعر يحتسي كل ذلك في جرعات، فيخاطب نديمه ورفيق أنسه: فهاتها قد بان/ لعاذل عذري في نغمة العيدان/ ورنة الزمر والثم طلى القطعان/ وارشف لمى الخمر رضابة حلوة/ كذوب بلوّر تختال فيّ سماط/ من جوهر النور لم يكن يتسنى للشاعر أن يأخذ بيد مخاطبه كي يستكنه أسرار الجمال في الطبيعة ما لم يكن قد دعاه إلى حالة السكر الأولى التي تغمر عاذله أيضاً فيستغرق مثله في الإنصات لأنغام الموسيقى ورنين الزمر الذي يصدر عنها حتى تتجسد في مراشف الحسان ذات الرضاب الصافي كذوب البلور وهي تزهو بجمالها الذي ينفذ إلى جوهر النور. هذه القدرة الشعرية على صهر كيان الإنسان والأزاهير في تجسيد متوحد يعانقه الشاعر عندما يبلغ به الوجد مداه تجعلنا ندرك عدم اقتصار فكرة الحلول على الأوساط الصوفية وسريانها إلى صميم الرؤية الشعرية.