ظل الأطفال والنساء والرجال في تلك القبيلة التي تعيش في أقاصي الجبال ولزمن طويل جدا يتوارثون اعتقاداً غير قابل للنقاش، هو أن المطر في قبيلتهم يصعد إلى السماء وليس العكس، سكان هذه القبيلة كانوا يحتفون بالحياة ويواجهون آلامهم وجراحات الحب بالحكايات، ويمررون الوقت بالغناء، لكنهم لا يعرفون شيئاً عما يحدث في العالم، كانوا يعتقدون بأنهم هم العالم إلى أن قررت الحكومة المركزية أن تبني لهم مدرسة وترسل لهم معلمين فكأن القبيلة اتسعت وكبرت وزادت جهة أخرى، صارت لها جهات أربع كبقية الجغرافيا.
بعد المدرسة قدم تجار وضيوف وخرج صبية وشباب منها إلى المدينة ليكملوا تعليمهم كما يحصل عادة في القرى والأرياف، فرأى أهل القرية الشاي والملابس الغربية والجوارب لأول مرة في حياتهم، تغيرت القبيلة ولم يعد عالم أهلها كما كان، وعندما عاد إلى القرية رجل كان قد رافق ابنته للعلاج في بلاد أجنبية صار يروي لهم مشاهداته عن النساء والمنازل والحدائق والسيارات والتلفزيون والهواتف فأشعل بحكاياته مخيلتهم، وأصاب قلوبهم بلوثة الفضول والرغبة في المعرفة والتي إذا اشتعلت لا يمكن إطفاؤها، وإذا أصيب بها الإنسان فلا شفاء له منها.
حينما نقرأ كتاباً، ونجلس إلى رجل يعرف أكثر، أو امرأة سافرت الى الأقاصي وعادت بأكياس معبأة بالأسرار وعلب مغلقة على حكايات تصيب الرأس بالدوار وتخطف شغف القلب، فإننا لا نمرر ما نراه وما نسمعه على سبيل تمضية الوقت، المسألة ليست استماعاً وتسلية، نحن في الحقيقة نضيف مدينة إلى مدينتا، وجهة إلى جهات شغفنا، ونافذة أخرى داخل عقولنا، تماماً كما حصل مع أطفال ونساء ورجال تلك القرية، فالمدرسة والناس الذين جاءوا من خارج مدار الجبل، لم يمروا مرور الكرام على واقع القبيلة، لقد ازدادت النوافذ التي يطل منها الناس على العالم، لم تعد القبيلة هي كل العالم ولم تعد تلامس السماء، أخيراً اقتنعوا بأن المطر يأتي من السماء ولا يصعد من أرض القبيلة إليها.
كل واحد منا في هذه الحياة يشبه تلك القبيلة، حتى اللحظة التي يقرر فيها أن يفتح نوافذ عقله وقلبه ليرى ماذا يوجد خلف الجدران والأسوار، أول ما نكتشفه أن النوافذ كثيرة جداً، وأننا كلما فتحنا واحدة اكتشفنا قدرتنا على الرؤية أكثر وممارسة فعل الدهشة، واكتشاف مدى اتساع اللغة ومدى قدرة هذه اللغة على تقديم العالم الحقيقي لنا شرط أن نفتح النوافذ على اتساعها، ثم نغير الزوايا التي نطل منها.
إن ذاتنا نافذة، واللغة نافذة، المعرفة والحكمة والآخرون والسفر نوافذ أخرى، وحين نطل من نافذة جديدة ليس بالضرورة أن تقع أعيننا على مناظر تهواها النفس، النافذة الجديدة تحيلنا حتماً لمشهد آخر ولقراءة أخرى للحياة والظروف والبشر والأفكار، والعبرة ليست بالتمتع بما نشاهد ولكن بتفكيكه وفهمه جيداً ومن ثم قبوله أو رفضه.
يتوافر لنا كجيل ما لم يتوافر لجيل سابق من النوافذ لعل أهمها التكنولوجيا والكتب، وسائل التواصل مع الثقافات والآخرين، لكن كثيرين لا يفتحون نوافذهم، فيبقون محبوسين في أوهام تلك القبيلة البعيدة المعلقة في أقصى الجبال معتقدين بأن المطر يصعد الى السماء، وأنهم هم كل العالم.


ayya-222@hotmail.com