تسكتُ العاصفة بعد هياج. يذبل هديرها ويحاصرها التراخي إلى أن تصير سكونا يسكن فيه الفراغ. الأشجار التي اقتلعت الريح أغصانها ورمت بها في الشوارع والطرقات، تعود تنموا أسرع وأبهى عند نزول المطر مدرارا من جديد. والزهرة التي تلوثت في الوحل، يجرفها السيل بعيدا لتنبت مكانها مليون زهرة تتفتّح في أغنية الصباح الجديد. وما بين السكون والعاصفة، دربٌ وسط يسمى (الرتابة)، عندما يستيقظ الرجلُ من غير ساعة في يده، ويرى وجه أمسُهُ في غده، ولا يعرف هل هو يذهب في الزمان، أم أن الزمان يعود إليه. ومن رحم الرتابة يولد طفلٌ يسمى (التكرار) يظل يكبر في الألسن التي تنطقُ بلغوٍ جماعي من حشو تلقينها. ثم يكبر هذا التكرار ويصبح حقيقة واهية منحوتة في جدار. ولكن العاصفة تتلذذ بالهدم، يستهوي ضميرها أن ترى الجلود تتغيّر، والأقنعة تُقشع، والتماثيل تنحني عند مرورها، فتتكسّر من تلقاء نفسها، وتصبح هشيما حجريا وبقايا وفتاتا. القلب الكبير المبطّن بالشجاعة التي مصدرها الحب، يدرك أن السكون يحمل في داخله الزوابع الصغيرة، وأن العاصفة، أياً يكن حجمها، لها عينٌ يمكن أن ُتفقأ، ولها زمنٌ لا يدوم. ولذلك يحمل رمحه ويذهب للشر قبل قدومه ليصيبه في البؤبؤ فيعميه، ويحمل الكلمة الصادقة ليمحوا بنورها مقولات الضغينة التي يشعلها المكتوون برغبة الانتقام من الوردة. وبعد همود العاصفة، يولد من القلب الكبير فعلٌ يسمى (المسامحة)، ومن جسد المسامحة تمتد يدٌ تسمى (الحنان) تمسح على رؤوس البراعم النابتة تواً لتزهر بالأفكار الجديدة، وليشتد عودها وهي تكبر لا تهاب اشتداد الريح. وما بين المسامحة والانتقام، درب وسط يشبه الحبل المعلّق بين غريزتين. الضعفاء يميلون ناحية العتمة ويسقطون في نار التأنيب حين لا يجدون سوى الرماد يكبر في عيونهم الملتهبة بحقدها. بينما على جهة الحقيقة، يتعالى المحبّون الكبار عن فكرة السقوط في براثن الوهن، وتشدّهم عزيمة الحب إلى تجاوز عثرات الدهر أياً كانت، بغية الوصول إلى حياة أبهى، لنكون بشرا بقلوب أصفى. جلس اثنان على حافة المعنى ينتظران إشراقة الغد وصعود شمسه في أفق يوم جديد. يداهما في عناق، وقلباهما في فراق. قال لها: أحب الليل كثيرا، أعشق نجمة السهر حين تغمز لي في المساء ويطرب قلبي لو أرحل نحوها. رجلاي على الأرض، ولكن روحي تهيم في سفر بعيد. وهي بصمت قالت له: أنت لا ترى سوى ما ترغب أن تراه. كنتُ قربك في الطريق وفي الآه، مددتُ لك يدي في العاصفة ومنحتك الحنان تسكن فيه غارقا في السلام. لكن قلبك لا يهدأ وعيونك لا تشبع. تغرف من معين روحي ما يواسيك لترحل نحو هاوية بعيدة، وأخاف أن تقفز في الفراغ وأنت تظنه نهر الحقيقة والجمال. لو شئت أن تفوز بالحرية فإنها قربكَ، قرب ظلك، وفي راحة يديك. فقط قل: تعالي يا حبيبتي، وسوف ترتمي الدنيا تحت قدميك. جاء الهواءُ ودارَ وسكنْ تكسرّت النوافذ وتمزقّت ستائرها ولم يطل بعد، وجه حبيبتي. akhozam@yahoo.com