من أطرف موشحات ابن خاتمة وأجدرها بالتأمل لاستكناه طبيعة هذا المجتمع الأندلسي المهجّن، الذي كان يصهر الأعراق والطوائف في بوتقة عاطفية واحدة، تصفو حيناً فتسود المحبة والوئام، ثم تشتعل حيناً آخر بنار الفتن والحروب، من أطرفها موشحة عرفت بمخرجتها الشهيرة «عاشق بترجمان» يقول في مطلعها: في طاعة النديم/ وفي هوى الحسان عصيت كل عاذل/ ودنت بافتتان وهذا خطاب مألوف في العشق الذي يطرح رداءه على الحسان والندمان معاً، مضرباً صفحاً عن لوم العذال، ومخلصاً لما يتعرض له في الهوى من غواية وفتنة. ثم يقول شارحاً ولهه في المقطع الثالث: عُلّقته غزالا/ للروم مُنتماه زنّاره استمالا/ حلمي إلى صباه إن قال لي مقالا/ لم أدر ما عناه أو أشتي همومي/ لم يدر ما عنان فالقلب في حبايل/ أيدي هواه عان هذا الغزل الرومي الذي لا يتحدث بغير لغته لا يفهم كلام مخاطبه ولا يعي مخاطبه كلامه، ومع ذلك يعلق بقلبه ويقع في هواه بطريقة تلقائية لا يجد الشاعر حرجاً في التعبير المباشر عنها ولم يكن هذا مستغرباً في تلك العصور التي تتميز بممارسة حرية التعبير، ثم يقول: أقسمت بالأناجل/ وحرمة المسيحْ ما إن أطيع عاذل/ فيك ولا نصيح فكم وكم تماطل/ ذا لوعة قريح قد امحّت رسومي/ سقماً عن العيان فارحم أنين ناحل/ لولاه ما استبان من الواضح أن الغزال الرومي كان مسيحياً يستدعي أن يقسم له الشاعر بكل الأناجيل أنه مخلص في هواه، ويزيد على ذلك بالحلف بحرمة السيد المسيح، أنه عازف ومعرض عن سماع أي لوم فيه أو نصح بتركه، بالرغم من مماطلته في الوصال. وهو لثباته على هذا الحب الجارف قد كادت معالمه ورسومه تختفي عن الأنظار من نحوله الشديد، ويستعطفه أن يرحم أنينه، فلولا هذا الأنين الصادر عنه ما استدل أحد على وجوده ولا ظهر، ومن الواضح أنه يستخدم بيت أبي الطيب المتنبي الشهير: كفى بجسمي نحولا أنني رجل/ لولا مخاطبتي إياك لم ترنِ ثم يأتي دور الخرجة الطريفة التي تمثل مركز الثقل في الموشحة فيقول: قل كيف يستريح/ صبّ يتيمُ لسانه فصيح/ والحب أعجمُ ها حالتي تلوح/ فهل مترجمُ صبيّ عشقت رومي/ وسن نحفظ اللسان الساع نا نشاكل/ عاشق بترجمان تقوم اللهجة الدارجة الأندلسية في البيتين الأخيرين بإضفاء طابع الطرافة المليحة على الموشحة بأكملها، وبوسعنا أن نفهم البيتين على أنهما: «صبيّ رومي عشقته، وكيف نحفظ لسانه، فالساعة نحن نصبح عاشقاً بترجمان». ولا شك في أن هذه الحالة لم تكن فريدة في المجتمع الأندلسي متعدد الأعراق واللغات.