في يومه العالمي الذي أقرته اليونسكو مقرونا بحق المؤلف، يستحق الكتاب وقفة، قد لا تتسع لها مناسبة احتفالية واستذكارعابر. إنه الكتاب مدونة الحجر والجريد والبردي والورق.. وصية الإنسان لسلالته وحافظ نواميسها ومعارفها. الجاحظ ـ قبل أن تسقط عليه الكتب ويموت جراء ثقلها ـ وصف الكتاب بأنه (وعاء) انزاح عن وظيفة الغذاء والماء ليكون ممتلئا بالعلم والمعرفة. وهو عنده طبيعة او بستان وروضة تثمر أدبا. بمعجزة يجمع الشاهد والغائب معا بل ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء. ناطق أخرس لا يزعج مخاطبه أو يضايقه. فدعاه (نعم الجليس) تعويضا عن رفض الآخرين الذين لا يرى في مجالستهم نفعا. قد يأخذنا التأويل لافتراض طريف: الجاحظ يعوض عن فقره بغنى وعائه.. يملؤه علما بينما يمتلئ في بيوت الأغنياء ـ الفقراء للمعرفة ـ بأطايب الطعام ولذائذه. سوف تتسلل صفات الكتاب هذه لتقال بكلمات أخرى من بعد: المتنبي يجعل الكتاب (خير جليس في الزمان) كله. معرّضا كعادته بمن نادمهم من ذوي السلطان ولم يرتو من صحبتهم ومال إلى مفارقتهم على أقبح الوجوه. بورخيس بعد قرون وعلى مبعدة سيقول شيئا مشابهاً. إنه يتلمس الكتب في عتمة عماه من مقعده الذي لم يغادره في مكتبة مدينته ليصفها ويتعرف عليها. العالم بالنسبة له كتاب كبير منذ مكتبة بابل. وهو يرى في مخيلته أن الفردوس مكتبة، لا شك ان حورياتها والطائفات على سكانها في نعيمهم هن كتب تمشي بينهم بدعة وسلام وغواية. بستان الجاحظ وروضته تتبدى لبورخيس فردوسا أشجاره الكتب وثمارها أيضا. لم يكن للعالم وجود بنظره دون الكتب. مخترعات الإنسان الأخرى هي امتدادات فيزيائية لأعضائه وحواسه. السيف مثلا هو استطالة أو امتداد لوظيفة اليد. لكن الكتاب نتاج المخيلة ولا تمثيل له في عالم الحواس فكان جديرا بوظيفته الفردوسية. تتناسخ الكتب لتعيش وتتوالد عن بعضها. كل كتاب به حاجة لسواه كي تتم قراءته. هكذا اكتشف بورخيس لا نهائية النصوص وإمكان صياغتها متوالدة بألسنة اخرى، فقام بدور الحكّاء أو الراوي لقصص شهيرة معروفة المصدر. حكايات ألف ليلة وليلة مثلا أو الأخبار والأمثولات الشائعة والمأثورات الخرافية. الكتب تتحول كالأرواح أو المخلوقات المتوارثة لجينات بعضها. لا خشية على مستقبل الكتاب؛ فهو موجود لأنه عالم قائم في الواقع وفردوس قابع في المخيلة. المعري أيضا تكشفت الأبدية لعماه ملتقى أدبيا تخيله في «رسالة الغفران» ووجد التنجيم لعبة أعمى لديه الكتب يقرؤها باللمس ويتقرى مصائر أقوام مبصرين.. كما سيفعل بورخيس بكتب مكتبة بوينس آيرس التي ظل أمينها بعد عماه يستدل على وجودها باللمس. إصبع تقلب كتاب الرمل الذي لا بداية له ولا نهاية. وإصبع تغمس في سم الكتاب القاتل الذي يهبه الرأس لقاتله في الف ليلة وليلة.. لكنه الكتاب لا تنفد حروفه ولا ينتهي كالرمل. كلما التهمته الحرائق انبعث عنقاءَ ورقيةً من جديد.