متسمراً قبالة الفراغ العظيم يحاول ان يقرأ المعنى الميت، او يحرّك الأشكال التي تجمّدت في صورتها الاخيرة وصارت جزءا من لوحة الزوال. انه الشاعر مهموما بتغيير الاشياء، يهزّ الاصنام لعلها تتزحزح كي يمر الكلام سهلا الى الناس، لكن الأصنام توغل في تبرمها الازلي وتتشبث في مكانها حتى الرمق الأخير ولا ينفع معها سوى معاملتها كحجر. وفيما بعد، حين يتلفت الشاعر الى فيلم الحياة، سيرى الاصنام تتحرك وتنطق من وراء السياج العالي، يعبدها الخائفون ويحرسها الجنود من كل صوب وهي تتوعد بشل من يقول (لا) وقتل من يقول (لن) وسحل من ينطق باسم الحرية حتى في خاطره وسره. متربصا للحظة سقوط الفراشة في النار، يحدق الشاعر طويلا في الدخان الاسود حتى تحمر عيناه. بعدها سيعرف ان الحروب، وان ارتفع دخانها عاليا، فانه ينقشع عند مرور الغيمة البيضاء، تلك الغيمة التي تتلبد بمعاني النشوة العظمى، الغيمة التي يغتسل بمائها المنتصرون راقصين ينفضون الرماد من افواههم وهم يغنون (نعم) للحرية مشعلا لا ينطفئ ابدا. (نعم) للعناق بين السيف والوردة في المكان الذي يتسع للجميع، و(نعم) للكلمة التي تقال من القلب وتصل الى كل القلوب بلا حواجز او متاريس. مجروحا، نازفا يمشي في الدروب الوعرة نحو اقتناص الجمال والتشهير له، يرسم الشاعر على جدران الخوف صورة للشمس لا تغيب ابدا، لكن الجبناء، ندماء العتمة مدمني الرعب، يمحونها باظفارهم، يطفئون شمعة الأمل املا في استمرار الليل الى الابد. ولذلك يطردهم الشاعر من القصيدة وينثر اسماءهم في المحو الكبير حيث مكانهم الاول. ويهدم الجدران، وينقش مكانها نهرا يشق كلمة (الجفاف) الى نصفين. لعل الفراشة تهتدي للوردة، ولعل عبقها يفوح في الكلام كله. بثوب ممزق، تهرب اللغة من افواه الساكتين على المرارة والظلم، شعرها يتسربل في الريح وهي تركض باتجاه الشاعر لينقذها من عرس الندم هذا، لكن الشاعر، حين يكون في غير زمانه، يكون بلا فم، ولا طائل منه حتى لو حمل القلم عاليا في وجه السيف. واللغة لا تملك ان تستجير ساعتها الا بالدم، تتناثر حروفها في الجروح وتصير كل اثوابها حمراء في عرس الموت الكريم، حيث الضحية تنتصر على قاتلها في ساعة المصير. خذيني قال الشاعر، فمي مغلق وورقتي داسها الجنود وعتّمتها حرائق الحرب. كل حرف حفرته في مرايا الخوف صار قبرا لصمتي، كل كلمة كتمتها كانت شللا يتسرب الى القلب ويبطئ دقاته. خذيني حيث الصدور المفتوحة امام الرصاص صوتا اعلى من الكلمات، هناك سترتوي روحي وهي تسمع اغنية الانتصار على الذل بعد ان طال امده. في غرفة الكلمات لا تحتاج الى الشمعة قل كلمة (لا) كي تتهدم الجدران وتنبثق الدروب قل كلمة (نعم) للشمس واكتب معي اغنية الحياة. عادل خزام | akhozam@yahoo.com