ذات صيف جميل وبعيد أحببت أن ازور جنوب فرنسا لأول مرة، قاطعاً الطريق إلى الـ”بروفانس” قاصداً مدينة بعينها أفنيون، تلك التي يسميها الكثير مدينة النسيم العليل، فصدى تردد صوتها التاريخي ما زال في الرأس منذ أيام الدراسة، حيث احتلها المسلمون حيناً من الوقت، وبعد سنتين من هزيمتهم الكبرى في تلك المعركة التي غيرت وجه التاريخ بحسب المؤرخين، معركة بلاط الشهداء أو “بواتييه” عام 732، افنيون مدينة يغلب عليها الطابع المعماري القرو- أوسطي، يحوطها سور قديم ظل يحميها من غزاة كثيرين، تتوسطها كاتدرائية “قصر البابوات” التي كانت مركزا للمسيحية، حيث كان ينصب البابا بعيداً عن الفاتيكان في مرحلة قاسية من التاريخ المسيحي، عرفت بمرحلة النفي، عاش فيها تسعة بابوات في القرن الرابع عشر، حينما دخلتها لم توح لي إلا بكونها مدينة أندلسية، إسبانية قوطية الطابع، بعيدة كل البعد عن فرنسيتها التي تفرضها اللغة وحدها، ثمة نهر جميل بارد يجري في عروقها منذ الأمد، نهر الرون بكل تلك الوداعة الحانية، قلاع ما زالت صامدة بصخورها القاسية، قناطر وأقواس وسواقي، كانت قبلة للعشاق، ومغني الـ”تروبادور” والـ”ترافيرسير” وتلك الأشعار التي تخرج محترقة من بين الضلوع، مبانيها فيها من حميمية القرب من البحر الأبيض المتوسط بخجل، كل الثقافة ورموز الفن تجدها في طرقاتها، موزعة في زواياها، تعد اليوم من مدن الثقافة في العالم، يأوي إليها الفنانون والسياح لا سيما في مهرجانها العتيد والسنوي والذي اليوم هو في عمره الـ 65، والذي انطلق بمبادرة من المخرج المسرحي الشهير “جـان فيلار” سنة 1947، بعد الحرب العالمية الثانية، وتأسيس الجمهورية الفرنسية الجديدة التي مزقها الغزو النازي، حينها عرض مسرحية “موت في الكاتدرائية” لـ”توماس ايليوت” وسعى لجعل هذا المهرجان سنوياً، وبعروض مسرحية عديدة ومختلفة، جاعلاً من المسرح متعة وثقافة للجميع، والخروج به من الصالات التي تخص النخبة البرجوازية الباريسية إلى فضاء المكان، اليوم هذا المهرجان السنوي يعرض مسرحيات متنوعة قد تكون في المقهى وبمشاركة الزبائن ونادل الحانة أو في موقف السيارات أو في كراج منسي بكل الخردة التي فيه، أو ساحة البلدية العامة، يفترش الناس الأرض، ويمكن أن يمدوا الممثلين ببعض المشروبات المنعشة أثناء أدائهم لأدوارهم التي هي قريبة منهم، وكاسرة الجدار الرابع، قد ترى الممثلين يجوبون الشوارع يروجون لعروضهم المسرحية، ويبيعون التذاكر، اليوم غدا مهرجان افنيون ديفوار، مهرجاناً عالمياً، وخرج من إطار المسرح ليحضن كل الفنون، ويحتويها، ويقدمها في فضاء اللامكان، قد يمضي الإنسان أسبوعين من المتعة والبهرجة والثقافة والإبداع بمدارسه المختلفة حتى المجنونة منها، لكنه لن يندم، قدر ندمه أنه لم ير هذه المدينة التي تتحرش بالإنسان المبدع، ولا تدعه يمر دون أن ترى خربشة أظافره على جدرانها العتيقة! ناصر الظاهري | amood8@yahoo.com