أتذكر تماماً أنه في مطلع الألفية الثالثة، وفي فورة انشغال الناس والمدينة والعالم بالانفتاح، وفورة العقارات والتجارة والإثراء، لم يكن من حديث للناس عندنا سوى عن أمرين لا ثالث لهما: الأسهم والزحام ، يومها نسي الناس كل شيء تقريباً، فحتى تلك الشوارع المكتظة بالسيارات، والأوقات التي تهدر كل يوم، كانوا يتناسونها بمجرد أن يفتحوا شاشات السوق عبر أجهزة الحواسيب الشخصية، لتعلو ابتساماتهم مع صعود لا يتوقف للأسهم الخضراء، في غمرة تلك النشوة، نسي البعض أنه لا يفهم في هذه التجارة، ونسي البعض الآخر علاقاته الاجتماعية، وهواياته واهتماماته، وبعضهم نسي القراءة والكتابة والثقافة.
وكأية طفرة، فإن الأمر سرعان ما بددته تلك الأزمة العابرة للقارات التي أسقطت بالضربة القاضية اقتصادات دول وأحلام مدن ومستقبل الكثيرين من المغامرين والمغامرات، وانجلى غبار الأسواق عن بضعة رابحين وخاسرين بالملايين عندنا وحول العالم، في غمرة تداعيات الأزمة العالمية تلك، تنفس كثير من الحالمين والراغبين في جهة خامسة يذهبون إليها الصعداء، أولئك الذين تعطلت مشاريعهم أو لم يكن بالإمكان أن يسمعهم أحد، وسط ضوضاء السوق وصيحات الرابحين المدوية، لقد انتظروا، وحين خفت الضجيج وهدأت النفوس ولملمت المدينة نفسها، أتذكر تماماً أنني كتبت “... في الأيام المقبلة سيهتم شبابنا كثيراً بالثقافة، وسيعملون في صناعتها، وسيتقنون السباحة في بحورها، وسنسمعهم جيداً” أو شيء من هذا القبيل!
لقد كان حتماً أن يهدأ الشباب وأن يتلفتوا جيداً وينظروا إلى دواخلهم، ليتأكدوا أن السوق ليست للأسهم والعقارات فقط، وأن هناك تجارة أكثر إنسانية ودواماً، تجارة نحتاج أن نخوض غمارها، فنحن لسنا نفطاً وأشياء نشتريها أو نبيعها كل لحظة بفرح طفولي ساذج، إن تلك الحالة أقرب إلى التفريغ واللاشيء، بينما لدينا خزين من الحكايات والكلمات والرؤى والفرح، نريد أن نقوله، كل بطريقته، كي يرسمنا ويقدمنا للآخرين كما نستحق، وبالفعل بدأ شباب الإمارات مشروعاتهم الثقافية بحماس وإيمان وجدارة، دار نشر هنا ودار طباعة هناك وكتابة للمسرح وروايات وقصص قصيرة وكتب وأفلام روائية قصيرة وبعضها طويل حاز جوائز عالمية، وكرت المسبحة باتجاه سوق أخرى تمنحك نَفَساً طويلاً ومختلفاً حين تستنشق هواءها ..إنها الثقافة!
وبعيداً عن التقييم والنقد والقراءة الصارمة لهذا النتاج الثقافي الذي أفرزته سنوات استراحة المحاربين ما بعد الأزمة المالية الضاربة، فإن هذا التوجه لصناعة الثقافة بحد ذاته، يحسب لهؤلاء الشباب ويجعلهم ورّاثاً مستحقين وشرعيين لجيل الألق والبدايات من مثقفي الإمارات في ثمانينيات القرن العشرين، لقد تنفست أرواح ذلك الجيل هواءها واستعادت مجدها من خلال هذه الأصوات والأقلام الشابة التي أصبحت أسماؤها تتصدر رفوف معارض الكتب الدولية، وتجتهد للإصدار تلو الآخر، إن النقد وتفكيك الخطابات المطروحة ضرورة حتمية سيأتي دورها حتماً، دعونا اليوم نعيش التجربة التي تحمل في طياتها بشارات حقيقية مفعمة بكبرياء الحرف وبدايات العظمة.
هناك كتابات وأسماء جديرة بالمتابعة والقراءة والفرح، تحتاج أن تقف معها مؤسسات الدولة من مكتبات وجامعات ومدارس ووزارات ومثقفين ورجال أعمال ومعارض وبعثات دبلوماسية، لتذهب أسماؤها إلى أقصى مدى تستحقه، هكذا يستمر الألق والروح حية.


ayya-222@hotmail.com