كان الليل يسقط من عليائه، ليخطف خيوط النهار بدقة متناهية، وليسكن إليه التائهون بين أطراف الممرات، كان يحدث دويا شفافا بين مدارات أسطورية تحتدم منذ الأزل، فالنجوم لا تنسى تلك المدارات الواقعة، فهي دائمة البحث عن مأوى أسود الخلايا لتنير محطات الزمن المطلقة، وسترقى العتمة الى خوفها الأزلي وسيتوالد النهار من خيوط راقصة في مسارات العبث اليومي. وحدها حارتنا القديمة تعشق الظلام، والريح لا تؤجل غبارها، والرمل يتسلل الى تحت الأبواب، ويقيم زخرفة خرافية من وابل الشغب، وحدها حارتنا محفوفة بالخوف كما قالت جدتي، يلف أطرافها حتى العمق، وعند الظهر تعسكر الأشباح المخيفة، وفي نهاية النهار وبداية الليل يخرج من تحت الأرض الأرضيون، كم كانت مخيفة حارتنا ورغم ذلك لم تتوقف أقدامنا الصغيرة عن الجري، ولم نتوقف عن العبث بالتراب المحبب لنا. كانت حارة جميلة يجملها مضيف العين والسوق القديم وواحة النخيل ومسجد الشيخة لطيفة، خلف شبابيك الهدوء عينان تلمعان في ذوبان العشق المنسي، والممرات الضيقة منسية وكذلك الأبواب القديمة، أما بنات الحارة فيتوارين خلف شعورهن الطويلة، ويتبادلنا الأحاديث والضحكات عن حياء ويتبدد الغناء خلف الدهاليز وتتبدد الفرحة العابرة والضحكة المحتملة. ترى كل الأشياء عابرة خلف خيوطا مغلولة بالوهم، ومع ذلك رائحة الفرح تفوح من انتشائها، وعبير زقاق البدء يعزف على أوتار العزف الأولى، يمرر المساء أسراب طيور طائرة نحو مهجة السماء وبهجة تراود الانتشاء هامسة أمام سقوط الغموض. أما تلك البائعة ببراءة، وهي تحمل سلة الفاكهة على رأسها، صوتها يتوغل بالجدران يطرق الأبواب ومسامع أهل الحارة تعلن حضورها قادمة لا محالة ولا بد من الشراء رغم أنف الجميع.. بائعة لا يمكن ان تجادلها او تحاورها بالثمن ولا بالفاكهة التي تخرجها من السلة كالعسل حسب رأيها. حارة كانت أمام التحول تودع زمنا أدمنت فيه وخز الأشواك حتى دمدمت بالجروح، لكن صوت المارة لم يتدحرج بعيدا، ظل صوتا أنيقا امام الملأ، ظلت مسارات للمكان تورد أسرارها من طموح الآتي، تمرر عيناها على شعاب الجبال، تتراقص أحزنها على موت الكلاب تحت وطء الوحدة والألم، وأحزنها بشدة موت الحياة ذات العفة والبراءة، وقالت في قرارة نفسها: ما أجمل الحارة وأنفاسها وسحرها وقد تركت الطرق العشوائية واندثر التراب وغمست الحياة تلك، وتبددت وعادت العاشقة للحارة لتحصي وجوه المدينة التي تآكلت منذ زمن. حارة رائعة حين تحيلك الخطوات الى شجرة النبج الشاهدة على التحول والواقفة تحاور بصمت، وكأنها “ترشيني” مرت على حمارها الأنيق مرتدية ملابس الرجال الناصعة البياض تضع إبهم يدها على زر “الهرن” وكأنها تنبه الحارة وأهلها بالآتي من زمن التحول.