كلما قابلت شباباً صغاراً في مكتبة، أو في ممرات مدرسة، أو داخل أحد أجنحة معارض الكتب، امتلأت يقيناً بأن المستقبل بخير، وأن ذاكرة النخيل لا يرويها سوى ماء الحياة والتوق للغد، لذلك فحينما جلست في جناح مؤسسة هماليل الإماراتية للنشر والتوزيع مساء الأمس لتوقيع كتابي في طبعته الثانية، كان أكثر ما ترك أثراً في داخلي هو وجوه ثلاث فتيات صغيرات لا زلن في سنوات الدراسة الثانوية، يوزعن منشوراً يتعلق بمؤسسة طبية دولية مختصة بإجراء العمليات الجراحية للمصابين بحالة الشفة الأرنبية، وحتى لا يبدو الأمر لغزاً، فإن الصغيرات جلسن بجواري يشرحن فكرتهن بمنتهى الثقة والبساطة والوضوح! ما عرفته من الصغيرات أنهن يدرسن في ثانوية التكنولوجيا التطبيقية في مدينة أبوظبي، وأن من متطلبات النجاح في هذه الثانوية أن تكمل الطالبة فيها 100 ساعة من الخدمة التطوعية، وما لم يكملن هذه الساعات فإنهن لن يتخرجن أبداً، هذه المعلومة أسعدتني كثيراً، وأنعشت في داخل روحي ذلك الأمل الذي تطفئه عبارات اليأس والإحباط والتذمر حيال جيل الشباب الصغار المتهم دوماً بكل السلبيات، هذه الاتهامات التي أسست لثقافة سلبية جداً حول هؤلاء ما أسهم في قطع العلاقات بين الأجيال الصغيرة والكبار، كما أسهم في حالة عدم اعتراف مطلق بين كلا الجانبين بسلوكيات وأفكار وتوجهات كلا الطرفين بالآخر. إن أناساً من جيل الكبار لم تمر فكرة التطوع ببالهم، ولم يعترف بعضهم بها، كما لم يفكر أحدهم بالقيام بأي عمل تطوعي ولو لمرة واحدة في حياته، مع ذلك فهؤلاء لا يكفون عن اتهام جيل الصغار بعدم الجدوى، وبالاتكالية وعدم النفع مطلقاً، متناسين أنه لا يوجد فساد مطلق ولا شر مطلق، وكذلك لا وجود لفضيلة مطلقة ومثالية خالصة، ففي كل جيل وفي كل مجتمع هناك الصالح والطالح والخيِّر والشرير، ذلك لأن الله خلق الناس مختلفين، وهكذا سيظلون منذ الأزل وإلى الأبد، وإن محاولات القولبة والتأطير والتعميم لا تتناسب مع المنطق ولا مع حرية الفكر والخلق معاً. إن اشتراك هؤلاء الفتيات وغيرهن كثير في جماعة دولية لجمع التبرعات والهبات الخيرية لصالح هؤلاء المرضى حول العالم من أجل توفير نفقات العمليات الجراحية لهم، يحمل أكثر من دلالة: فأولاً تستمتع هؤلاء الصغيرات بهذه المشاركة التطوعية ويعتدن القيام بأعمال جيدة لصالح المجتمع من دون مقابل مادي، ويتعرفن على طريقة تعاطي الناس مع هذه المبادرات بعيداً عن العاطفية المطلقة، بل على أساس واقعي، وفي الحقيقة فإن ثقافة التطوع من أكثر التوجهات تحضراً في المجتمعات الإنسانية المعاصرة، كما وتعتبر مقياساً من مقاييس التطور المجتمعي والسياسي فيها. أتمنى أن تتجه كل مدارس التربية والتعليم في الإمارات نحو تعزيز ثقافة التطوع لدى الصغار والشباب، وأن لا يترك الأمر اختيارياً لهم، بل يعامل بالجدية المطلوبة حتى يستشعر الطلاب ضرورته وأهميته الاجتماعية، كما أرجو من معالي وزير التعليم أن يعمل على توجيه القائمين بأمور المناهج للإسراع في إقرار هذا المنهج مع إعطاء التطوع لصالح مجتمع الإمارات الأولوية تعزيزاً لقيم الانتماء لدى الطلاب. عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com