نستكمل موشحة غناء الحمام، وقد ختم المقطع الثاني بعد المطلع بعبارة هي ذاتها التي يستهل بها المقطع الثالث، في لعبة الربط بين المقاطع بشطر مكرر، حيث يقول: لست أنسى الذمام فالحر/ من يراعي العهود ما لمن خان في الهوى عذر/ لو براه الصدود إن أتاه من حِبّه هجر/ عن قريب يجود إنما لذّ مورد الود/ بقليل الغرام وحلت عنه نشوة الصب/ بسماع الملام الوفاء بالعهد وحفظ الذمام قيمة أخلاقية عظمى في الثقافة العربية، وهي من علامات الفروسية والنبل التي حفظت كيان المجتمعات حتى الآن، والمراس بها والتدريب عليها لا يقتصر على ميادين الحروب، بل تيم أولاً في علاقات الناس اليومية، وربما كان أشدها حساسية هي علاقات الغرام، ومن لا يحافظ على عهده مع محبيه كيف يتصور منه أن يرعاه مع أعدائه، الخيانة ذميمة في كل الأعراف والشرائع، وخيانات الهوى هي الاختبارات الأولى للأفراد وهي التي تحدد سلوك الجماعة، بهذا يرفع الشعر معايير المثل الأخلاقية ويرسي دعائمها، على أن الإسراف في كل شيء مذموم، حتى في الوصال والود، فالإنسان السوي يتغذى بالحب ويكفيه «قليل الغرام» وهي عبارة طريفة بالغة اللطف، أما من يلومنا على ذلك فلا ينبغي أن نسمع له: بسماع الملام قد صمّا/ مسمعي يا عذول فدع اللوم إنني مصمي/ لا أعي ما تقول صاد عقلي غُزيل ألمي/ صائد للعقول لاح كالبدر ليلة السعد/ سافرا عن لثام وانثنى عن مُنعم رطب/ فاستفز الأنام يرد تعبير الغزال مصغراً بكثرة في الأغاني الشعبية، لكنه نادراً ما يأتي في الشعر الفصيح، والموشحات تلعب دور الوصل بينهما ببراعة، فالغزال الصغير الساحر بلمساه صائد للعقول بدلاً من أن يكون هو وضوعاً للصيد، وهو يبدو كالبدر السافر بدون لثام، وإذا كانت البدور لا تضع لثاماً فكيف للحسان أن يفعلن ذلك وهن ينثين بنعومة وطراوة تستفز كل من له قلب، هذا الاستفزاز سيكون مطلع القفل الذي يقول: استفز الأنامَ مرآه/ بفنون الفتون شادن مذ عدمت رؤياه/ حشو صدري شجون قلت أشد وشوقاً لرؤياه/ صادحات الغصون يا حماما شدا على الرند/ بالنبي يا حمام إن خطرت على ديار حِبي/ خصّها بالسلام هذه العذوبة الآسرة في قفل الموشحة تنبع من التراكيب المفعمة بالمشاعر الإنسانية، فنون الفتنة بالجمال لا حدود لها، وعندما يكون الصدر محشواً بالشجون والمواجد فهو الذي يجعل الشاعر يشدو شوقاً لحبيبه كأنه صار بدوره حمامة صادحة على الغصون، لكن نبرة المتكلم تصبح هنا أنثوية رقيقة إذ تستحلف الحمام بطريقة عفوية «بالنبي يا حمام» كي يخطر على ديار محبوبها ويخصها دون غيرها بأزكى السلام، ولا أحب أن هذه النبرة الأنثوية قد جاءت عفواً في ختام الموشحة، بل إن تقاليدها هي التي تفرض الشدو بالأغاني على لسان فتاة تجاهر بحبها متحدية العادات والتقاليد.