لا يزال نشر رسائل الشهيد غسان كنفاني لغادة السمان موضع مراجعة خارج نصية غالباً. أي أن التساؤلات تنصب كلها على مسألتين: أولاهما كونها نشرت بعد وفاة مرسلها، والثانية تتصل بصورة نمطية لشخصه مناضلاً ذا قضية فقدَ حياته من أجلها. كيف أتيح لغادة السمان أن تنشر خصوصيات عاشق توجه لها بالرسائل وباح لها بما يُعد في عرف المجتمع مسكوتاً عنه؟ وكيف تأتّى لغسان هذا الكم العاطفي المسترسل بلا عُقد، أو استعلاء قد يوجبه شخصه كمناضل بارز وقت كتابة الرسائل؟ تلك هي الحيثيات المرافقة للموضوع، بجانب أسئلة صغرى كجرأة غادة السمان في نشرها الرسائل وعبر الدار التي يمتلكها زوجها، وحيثيات أخرى تتعلق بدرجة الوله الذي تعبر عنه الرسائل وطبيعة صياغتها وما وصفت به أو وصف به غسان من خلالها. العودة إلى القضية يبررها ما يوليه المهتمون بالسيرة الذاتية وتوسيعاتها الممكنة من عناية خاصة بالرسائل، كونها مدونات ذاتية فيها مساحة للبوح والتوجه بالخطاب لقارئ متعين، يساعد وجوده كمتلق فاعل في إنجاز مهمتها التوصيلية من جهة، وإبراز قيمتها الوثائقية كرصد للشعور والانفعال والإدراك من جهة أخرى. لكن رسائل غسان انطوت على نقص تداولي كبير، هو ظهورها بهيئتها النهائية من طرف واحد؛ فهي تفتقد الصدى المطلوب في الرسائل التي تنبني على تواصل بين طرفين. فلو كان غسان يرسل تلك الرسائل لأصدقاء مثلا وفي فترات ومناسبات متقطعة متباعدة لأمكن استقبالها وقراءتها كوثائق على كِسر وأجزاء من حياته ووعيه. لكنه قام بصياغة تلك الرسائل تأسيسا على مواقف ومراسلات مفترضة من غادة السمان؛ لأنه يشير لكثير من المشاهد والتلفظات والأفكار ويناقشها ويستشهد بها، بينما نتسلم نحن القراء جانباً واحداً منها هو ملفوظ المرسل، وكأنه يبوح بالوله الحاد كله بصوته دون صدى أو جواب. تدافع غادة السمان عن عملها أو (حقها) بنشر الرسائل وتجيب في حوار لها بالقول: «غسان كان ينشر رسائله لي على صفحات الصحف ويقوم بقراءتها على الأصدقاء معلناً حبه، وبالتالي أنا لم أبح بسر، ثم إنني توهمت أن خطوتي هذه ستشجع سواي على سد النقص العربي في حق أدب المراسلات والاعتراف، وللأسف كنت مخطئة، وحدث العكس ولم يجرؤ أحد خلال العقدين الماضيين على مجاراة خطوتي، ثمة حروف جميلة في الأدب العربي لا يحق لأحد إحراقها أو حذف كلمة منها، لقد سبقنا كثيراً الغرب في نشر رسائل المبدعين واعترافاتهم أما عندنا فقانون الازدواجية يحول بيننا وبين نشر الحقيقة». وينطوي الجزء المقتبس من ردها على حقائق ووجهات نظر، فثمة نقص في أدب الرسائل والاعترافات كما تسميها معترفة بدورها بخطورة الملفوظ في مضمونها، وثمة إعراض عن نشرها لعل الازدواجية هي أحد أسبابها.. ازدواجية ليس غسان مسؤولاً عنها، بل الفكر الجمعي المفترِض خلو قلب (المناضل) من عاطفة الحب، أو أنه بلا قلب أصلاً!