هذا ما كان العالم يخشاه، فتحت ظلال وضلال سيوف الحرية، أصبحت ليبيا الديكتاتورية، ليبيا الدويلاتية.. الآن وبعد أن انفرطت حبات المسبحة، وصار النسيج الواحد، رغم مرارته، فتاتاً يقتات منه التعنت والتزمت، والإصفاف إلى القبلية العرقية والمناطقية.
الآن وبعد سنوات عجاف من الكبت والحرمان وجدت بعض الفئات المتطلعة إلى الاستقلالية عن الوطن الأم ضالتها، وما كان يختبئ تحت الجلد، وما كانت تخفيه النوايا الضاربة في السواد.
الآن حتى المجلس الانتقالي وأعضائه الذين جاؤوا بقارب الشعب ومجدافه ورغبته أصبحوا مرفوضين، تتناهشهم أنياب الانتقاد اللاذعة، وأحياناً الاتهامات القاسية، ولم يبق في ليبيا من ثوابت وتقاليد إلا وتكسرت على صخرة الفوضى الخلاقة، وصار المصير يتمشى على أشواك المجهول، والمستقبل لا أحد يعرف لونه وشكله، ويبدو أن تجربة السودان “القارة” أعجبت البعض، والذي قُضم جزء منه يساوي الربع تقريباً من جسده، كما خضمت أجزاء من رغيفه بفعل حرمانه من المورد الرئيسي “النفط”، وما المانع، فالحرية ثوب فضفاض قد يتسع وقد يضيق حسبما تشتهيه رياح المنظرين لها، والديموقراطية حوض مطاطي يستطيع من يريد أن يجر أطرافه إلى حيث يشاء وحيث تبتغيه الحاجة، ولن يتورع أحد صده أو رده لأن الاتهامات جاهزة من قبل المنظمات المتوثبة لكيل السباب والتخوين. ليبيا اليوم بعد أن خرجت من لعنة التاريخ القديم تدخل في محنة الغد العديم المعنى والمغزى. ليبيا تواجه أخطاراً بعد أن كانت تئن تحت خطر واحد، والمصائب تتوالى، ولا نستبعد أن تترك ليبيا هكذا في انكماشاتها الجغرافية ونزاعاتها القبلية حتى تلتفت إليها العيون مرة ثانية وتعاد صياغة التعابير فتوصم بأنها صومال جديدة أو حتى أي بلد يستولي عليه الموت المجاني. هذا ما كان العالم يخشاه، وهذا ما كان يجب أن يصير مهما تعددت المسوغات والحجج لأن الشعب الذي عاش أكثر من أربعين عاماً تحت السطو والسطوة، والقهر والبطش لا يمكن أن يعرف معنى للحرية لمجرد أن قرر الناس أن يمارسوا الحرية. فالحرية ليست ثوباً نستبدله بثوب، والديموقراطية ليست سيارة نبيعها لنشتري أخرى أغلى وأجمل، الحرية والديموقراطية مرتبطتان بالحالة النفسية، وحتى نمارسها بحذافيرها نحتاج إلى التدريب وحسن التعاطي مع حرية حريرية وديموقراطية ناعمة لا تخدش ولا تهمش. للأسف هذا لم يحصل لا في ليبيا ولا في بقية دول الثورات، بل إن ما صار انتقام فئة من فئة، والبلدان هي التي تدفع ثمن الإفقار ومزيداً من الأمية والمعاناة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
كل ما في الأمر أن مجموعة قفزت وأخرى أخرجت من الملعب لتبقى الساحة مشتعلة بالمطالب التي لم ولن تتحقق طالما بقي النهج يمضي باتجاه المجهول.


marafea@emi.ae