يبدو أننا نعيش في زمن مراحل ما بعد الفراغ، ويبدو أننا خرجنا من شرنقة الحبر والقلم إلى عواصف ونواسف لا تطيح كبارنا فحسب، بل إنها بدأت تأخذ بأسباب التدمير للعقول الخضراء، وليست المشكلة متعلقة بالإنترنت، كخدمة ثقافية يجب أن نرتادها وننهل من بحارها، ولكن العيب في نفوسنا، والعجز في قدراتنا على استيعاب ما يحمله هذا الساحر العظيم من معانٍ لا بد من تأهيلها وتهيئتها حتى تصير ملائمة للعقل منسجمة مع حاجته ومقتضيات عصره. لا بد من عين ثالثة تقف حداً وسداً وصداً لأي انحراف أو انجراف باتجاه أخطاء وخطايا قد تحرك العقل البشري نحو غايات وغوايات تستعبده وتظلله بأصفاد لا يستطيع الخلاص منها. فاليوم في كل بيت غرفة مغلقة وقنبلة موقوتة، داخل هذه الغرف تجري أحداث وترتفع حرارة عقول، ويصير الأفراد في سن ما دون المراهقة تحت وطأة تأثيرات حسية، إذا تم اقتيادها إلى المجاهل الملغمة، فمن المستحيل استعادتها وإرجاعها إلى صوابها. نقول بكل صراحة من حق أطفالنا أن يواكبوا التطور، ومن واجباتنا توفير ما يلزمهم من احتياجات، ولكن من حقنا عليهم المتابعة وانصياعهم إلى ملاحظاتنا وآرائنا، ومن واجبهم نحونا ألا يعتبروا الملاحظة شيئاً من التخلف أو تقييد الحرية، لأن الحرية لها قوانين وأسس وضوابط، وإن تركت على حابلها وغاربها فإنها تصبح أشبه بـ “الفوضى الخلاقة”. شبابنا اليوم، وقبلهم أطفالنا، يعانون سلوكاً انعزالياً واكتئاباً سوداوياً، وأحياناً بعصاب قهري مزرٍ لأنهم يعانون أيضاً العجز في التواصل المباشر وجهاً لوجه مع الآخرين، بل ومع الوالدين. أطفال وشباب فقدوا القدرة على المبادرة والمثابرة وتحمل المسؤوليات التي في حدود أعمارهم السنية، لأن الانكفاء داخل الغرف المغلقة يغلق الكثير من منافذ الحياة، ويوصد الكثير من الأبواب باتجاه العلاقة مع المكان والإنسان. أطفال وشباب يخرجون من غرفهم لا يستطيعون فتح أعينهم، بل ويسيرون مخفضي الرؤوس، ثم يجلسون لدقائق تحت أسر الصمت المطبق ثم ينهضون في هلع باتجاه الغرف المشؤومة، لأنه الإدمان الذي لا يشعرهم بالأمان إلا داخل تلك الكهوف والحتوف. تلك الغرف الباردة كثلاجات الموتى. إذاً نحن بحاجة إلى زلزلة هذا التراكم الأخلاقي، نحن بحاجة إلى زعزعة هذا التهافت، وإعادة ترتيب السلوك لهؤلاء الصغار، وصياغة شخصيتهم، بحيث لا تخرج من الواقع ولا تناهض الحياة العصرية ومتطلباتها. نحن بحاجة إلى والدين يتحملان المسؤولية كاملة، بشخصيات متكاملة، قادرة على التفاهم، وفهم مشاعر الأبناء، نحن بحاجة إلى والدين قادرين على تصويب الأخطاء بفطنة الحكماء، فلا إفراط ولا تفريط، ولا خروج عن النص، ولا غوص في النفق. علي أبو الريش | marafea@emi.ae