تتكُّ الساعة في روتين الأوطان النائمة، يثور جرسها متكرراً رناناً لمواعيد تحتاج إلى الحسم، لكن الصُمُّ، وقد تكاثروا بالآلاف في ممرات الملل، لا يسمعون سوى صوت الجدار، ولا يخافون لو لدغتهم عقارب الوقت السامّة، فتراهم ينزفون الدقائق والساعات بلا حسرة أو ندم، وكبارهم ربما يخسرون العمر كله في الهباء، غير مكترثين بالحياة ما دامت الأرض نهباً لذئاب المصالح. وفي الأوطان النائمة، يتحول الناس إلى قطعان صنميّة، يمضغون الصمت في سرحان أبدي، متلذذين بالانتماء إلى الفراغ العظيم. ومثل هؤلاء، قد يحملون جميعاً الساعات في أيديهم، لكنها ساعات حجرية لا تصلح إلا لحبس الزمن في مكانه. ويوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة، يتغيّر شكل الجدار أو يتهدّم، وتتزحزح الصخرة من موضعها الأزلي ويتدفق من تحتها نبع ماء، ويبقى الصُمُّ طامّة أوطانهم، حين ينادي الناس عليهم كي يفيقوا من شرود الذات، لكنهم يفضلون البقاء خارج الزمن. في الأوطان النائمة، يجلس المنتظرون في ردهات المؤسسات المريضة يطالعون الساعة، وقد توقفت عقاربها في الأمس. لا الغد يحمل بشارة التغيير، ولا اليوم جاء. تمر السلحفاة أسرع منهم مختالة بالبطء، وهم يرقبونها مشلولين في مقاعد النسيان إلى الأبد. يفتح الشاعر زجاج ساعته ويعيد عقاربها ألف سنة للوراء. ثم يستلُّ ورقة من شجرة لبلاب هرمة عمرها ألف عام، ينزوي تحت ظلها ويكتب سيرة الشعراء الذين حفروا في المعنى وأوقدوا شموع الحكمة على جدران الكهوف. كل رسالة كتبها رسل المعرفة، هي سفينة تبحر خارج شروط الزمان، سفينة تذهب إلى المستقبل أسرع من الضوء؛ لأنها تشع بالحقيقة التي لا تتغير مهما تبدّلت الساعات في أيدي البشر. وفي قصيدة عنوانها «سفر السنين»، سيكتب الشاعر عن رحلة الكلمة منذ مولدها في فم الحكيم حرة وبيضاء، ثم ضياعها في عقول الجهلاء الذين سيمرّغونها في الوحل حتى تكاد تختنق، ولكن الشاعر يأتي في النهاية لينقذها ويعيدها لامعة وهّاجة إلى الزمن الجديد. تدقُّ الساعة في قلب العاشق كلما أقترب الوعد. تتحول الخفقة إلى خفقان لو سمع دقّات خطوتها تأتي من بعيد في لحن خلخال. وإن رأى ظلها يبزغ في الزاوية الوحيدة لحياته، فإن الزمن ينحبسُ في الثانية ويصير عمراً كاملاً. خذي الوردة، سيقول لها من غير أن ينطق. خذي باقة المشاعر كلها واقتلعي شوكة الانتظار من عينيّ المغمضتين. ولكن عندما تمد يدها لتلمس طعم الحب، سيأتي رجل اسمه «الظلام» ليشّدها من شعرها ويعيدها لقفص الطاعة والستائر والقضبان. وحين سيفتح الشاعر عينيه، سيكتشف أن الحقيقة التي يراها كل يوم، هي في الحقيقة مجرّد حلم. وأن الوردة تذبل بسرعة إن لم تجد من يرتوي بعبيرها الساحر. يدق الذكيّ على مسمار التحدّي إلى أن يثقب به باب العناد، ويدقّ المحتاج على باب الغني إلى أن يموت على عتباته ولن يُفتح له. وأنا أدقّ على المرايا لعل وجهك يظهر معكوسا لوجهي. وساعتها أكون قد اكتشفت معنى أن يكون لي عمرٌ أنتِ فيه نبضٌ يدقُّ حباً في كل ساعة، وكل حين. akhozam@yahoo.com