خارج لسانه الشعري - وهو في شِعْب بوان- لم يستسغ المتنبي ما حوله من طبيعة. زهد بدنانير الشمس الذهبية المنسلة بين أوراق الشجر واكتشف أنها تفر من الأصابع، وأعرض عن الماء الرائق الذي يصلّ حصاه كصليل الحلي في الأيدي المترفة. أعلن ـ متحسراً مستدركاً على حفلة الجمال هذه ووليمتها الباذخة ـ أنه غريب اللسان: سيفه الوحيد الذي ناجزَ به؛ فكانت فروسيته عبر ملفوظه المعجز بحسب قراءة المعري اللاحقة. وظل غريباً- نفيساً بتأويله- بين شركاء اللسان من معاصريه، فألفوا في قدْحه مايكرس غربته، ويشي بسوء قراءتهم له. فكيف بلسانه متغرباً اليوم بلغة أجنبية؟ وماذا يصل من شعره القائم على اللغة واستنفار جمالياتها اللفظية والتركيبية والإيقاعية والدلالية؟ سيتهشم هيكل قصيدته الحكمية والتأملية لا لصعوبتها بل لدقة نسيجها. لذا يُذكر المتنبي في المراجع الأجنبية مقروناً بالحرب والفروسية؛ لأنها أكثر صفحات ديوانه جلاء، تريهم سياق فتوحات عاشها مضطراً، وجاهد لينفّر منها ويزدريها، وفُهمت خطأً بكونها مجال فخر وحماسة. خطلٌ تأويلي وقعت فيه قراءاته المدرسية. حين كرر أن المجد للسيف لا للقلم فإنما ليقرر حالة سائدة مرفوضة صارت بها الأقلام كالخدم للسيوف، وتنازلت لها عن التدوين. تلك استطرادات لمناسبة صدور مختارات من شعر المتنبي بالفرنسية وكتاب يدرس شعره، يلفت فيهما ورود (السيف) و(السلاح) في العنوانين ما يؤشر إلى الانصياع للصورة النمطية عن المتنبي فارساً في شعره، بينما تتضاءل قصائد الشكوى والاغتراب مثل: بِمَ التعلّل لا أهلٌ ولا وطنُ؟ وما لنا كلنا جَوٍ يا رسولُ؟ وفؤاد ما تسلّيه المُدامُ. وسواها من مقاطع التفرد والحنين للحرية. ولكن هل ستصل هذه الرؤى للآخر بلغته ذات الأنساق المختلفة، والتي يصبح شعر المتنبي فيها كلاما عاديا حتى لو تُرجم موزونا؟ هل تُدرَك عبقرية لغته ومهارة تراكيبه وعمق حِكمه؟ هنا يحرج المتنبي فكرةَ إمكان ترجمة الشعر بما يبرز مهارات الشاعر وجماليات القصيدة. أذكر محاولة لي مع دارسة أوروبية أشرفتُ على الفصول المتعلقة بالنصوص في أطروحتها، حللنا نماذج للمتنبي، فكانت تجد فيه لغة أكثر مما تنتظر من شعر في قصيدة. وحين تفتش في ما وراء الإيقاع الذي يذهب بالترجمة لا تجد سوى ما سمته قرقعة أصوات قوية ومعان معروفة. كنا بصدد تحليل ميميته «وتعظمُ في عين الصغير صغارها/ وتصغر في عين العظيم العظائم؟» فلم يصلها سوى الدلالة العادية التي قويت في النص العربي بفنون البلاغة التي استخدمها المتنبي كالمقابلة والطباق والجناس، وبلاغة حذف ما يعود عليه الضمير في البيت إلى الأمور العادية والملمات الصغيرة الشأن، والبراعة في مجانسة العظيم والعظائم والصغير والصغائر، وتلك لا يمكن للترجمة أن تدركها. ومثلها كثير مما يقوم على الموازاة بين الفكرة والنظم. الفكرة التي تمسك بها المتنبي وتعهدها بتأليف مميز يتهشم حين ينثر أو يترجم؛ لذا قال إنه وأبا تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري. لقد كان يعني الشعر بغنائياته التي زهد بها لسانه الغريب كشخصه.