ماذا يصنع الشعر بالحياة سوى أن يجعلها على مرارتها، عذبة الوقع على نفس الإنسان، ناعمة الملمس لوجدانه، صافية الإيقاع في خاطره؟ الشعر هو الذي يحيل بجماله وجود الإنسان إلى منبع للبهجة. وإذا كان ابن خاتمة الأنصاري قد ظفر في قراءتنا بوقفة متمعنة فلأنه قد عبَّر عن تيارات أصيلة في وجدان الأندلسيين، من الشعور اللاذع بالغربة والتمنان في أرضهم وخارجها، من الإحساس بجذورهم العربية والتغني بصبا نجد ونسيم الشام. يقول في موشحته السادسة: يانسيما قد هبّ من نجد/ وسرى بالخيامْ بحياة الهوى على العتب/ كيف بدر التمام ولا نتصور أن الشاعر في مقامه الوثير في مدينة ألميرية العامرة أو غرناطة الزاهرة بالقصور المنيفة كان يرى خياماً مثل أهل نجد حينئذ، ولكنه الهوى الماثل في ضميره، حيث يهفو إلى «بدر التمام» وهو في تقديري رمز لكل ما عشق في حياته. ثم يلتقط الشاعر الشطر الأخير من المطلع ليبدأ به المقطع التالي في جديلة محكمة النسيج: كيف بدر التمام حدثني/ بالرضى يا نسيم هل تسلّى بنأيه عني/ أم هواه مقيم وعليم الغيوب لا أثني/ عنه ودي الكريم ماجرت فوق وجه الورد/ عبرات الغمام وتثنّت معاطف القضب/ لغناء الحمام يظل المخاطب هو النسيم الذي يسأله الشاعر عن الحبيب، وهل سلا أم ظل مقيماً على هواه، أما هو فبحق علام الغيوب لم يتراجع عن وده ما دامت الطبيعة على عهدها؟ حيث تجري دموع المطر على صفحة أوراق الورد، وتتثنى عيدان الزهور طرباً وشجواً لغناء الحمائم. ولا نحتاج لمن يذكرنا بأندلسية هذه الصورة في تعبيرها الحميم عن تخلل عشق الطبيعة لنفس الإنسان الشاعر. أما أن يكون هذا المحبوب شخصاً محدداً، أو طيفاً هائماً في ضمير الشاعر فهذا ما لا يعنيه، ولا ينبغي له أن يشغلنا عن تمثل الحالة الشعرية. ثم يلتقط الخيط مرة أخرى في جديلة التوشيح من الشطر الأخير ليستهل به المقطع التالي: لغناء الحمام في قلبي/ رقة ونحولٌ ذكرتني معاهد القرب/ والزمان الوصول إن تحل يا مناي عن حبي/ إنني لا أحول كيف يسلو عن ذلك العهد/ واله مستهام حاش لله يا منى قلبي/ لست أنسى الذمام لا يلفتنا في هذا المقطع سوى أمرين، أحدهما طريف وهو وصف غناء الحمام بأنه رقيق وبه نحول، أما الرقة فهي شيء طبيعي، لكن كيف يكون الغناء ناحلاً رشيقاً، وليس غليظاً سميناً؟. الأمر الآخر هو وصف الزمان بأنه «زمان الوصول» وهو الوصف الذي نظن أنه قد تربى ونما عند تلميذ ابن خاتمة الوفي، وهو لسان الدين بن الخطيب في موشحته الشهيرة التي أبرز فيها «زمان الوصل» في الأندلس، الذي نعثر هنا على نواته الأولى في إشارة موحية ودالة.